أبو مازن بين مطرقة الاحتلال وسندان الجمهور الفلسطيني الغاضب من الاحتلال

أبو مازن، كما يمكن التخمين، كان يعرف جيدا كم ستحدث من عصف للخواطر تصريحاته عن المخطوفين الثلاثة بين ابناء شعبه الفلسطيني، عندما اطلقها على الملأ. فالزعيم الفلسطيني فاجأ في التقمص العاطفي الذي أبداه تجاه الثلاثة، وردود الفعل الحادة لم تتأخر في الوصول. حاليا، بعد اسبوع، يقف الرئيس في الثغرة ويرفض التراجع عن الهجمات عليه. مشكوك أن ينجح معارضوه في مواصلة حياتهم الاعتيادية.

في خطاب القاه يوم الاربعاء الماضي في المؤتمر السنوي لمنظمة الدول الاسلامية، الذي انعقد في جدة، في السعودية، قال ابو مازن: “ثلاثة شبان اسرائيليون اختطفوا من احدى المستوطنات. رغم أنهم لم يقولوا لنا شيئا عن الحادثة الا بعد 12 ساعة، ورغم أن العملية وقعت في منطقة ليست في مسؤوليتها، فاننا ننسق معهم للوصول الى هؤلاء الشبان. فقبل كل شيء هؤلاء بشر، ونحن نريد أن ندافع عن البشر”.

واضاف ابو مازن: “ان من نفذ هذا الشيء يريد أن يدمرنا. ولهذا فان لنا حديثا آخر معه، كائنا من كان. فنحن لا يمكننا أن نواجه اسرائيل بشكل عسكري أو غير عسكري، يمكننا أن نواجههم فقط بوسائل سياسية”.

لم تخرج أي كلمة من أقواله صدفة. وفي الغداة كرر ابو مازن بعضا من التصريحات، ولا سيما تلك المتعلقة بسلامة المفقودين الاسرائيليين. رفضه استخدام العنف ليس جديدا، وقد عبر عنه مرات عديدة في الماضي، ولكن في الايام التي يؤخذ فيها مئات نشطاء حماس واعضاء برلمان في ظلمة الليل الى المعتقل، يتوقع الشارع من زعيمه موقفا صلبا وليس مهاودا.

تصريحات ابو مازن شاذة ليس فقط بسبب التوقيت. فلم يقم بعد زعيم عربي، وبالتأكيد ليس رئيس م.ت.ف، يعبر عن مثل هذا التقمص العاطفي تجاه المصابين الاسرائيليين. لم يسبق أن كشف زعيم عربي لشعبه بانه يوجد في تعاون امني وثيق مع اسرائيل. وقد كشف أبو مازن مسألة التعاون الامني بين الطرفين عدة مرات امام الجمهور بل واوضح بان الاتصالات مع جهاز الامن العام ومع الجيش الاسرائيلي هي مصلحة فلسطينية تستهدف السماح لسكان السلطة بحياة أكثر راحة قليلا. واكثر من ذلك: تعترف محافل اسرائيلية بان اقواله صادقة، وان رجاله يشاركون بقدر ما في التفتيشات عن الشبان الثلاثة.

لقد أثارت هذه التصريحات عليه، كما هو متوقع، موجة من الغضب والانتقاد الداخلي. وحتى من يتفق مع مواقفه فوجيء من صراحته. لقد تحدث ابو مازن في ذلك ضد التيار، في مواجهة الشارع والمعارضة العاصفين والغاضبين. ويتهمه كثيرون بانه فشل في مسألة السجناء، ولم ينجح الا بتحرير عدد قليل جدا منهم، رغم اتصالاته مع اسرائيل. والواحد تلو الاخر، في السنة الماضية، قتل شبان فلسطينيون بنار الجيش الاسرائيلي في أثناء المظاهرات. ويرى الفلسطينيون بذلك تعبيرا عن انغلاق الاسرائيليين ويتهمون الجيش الاسرائيلي باطلاق النار بلا مبرر، حتى لو رشق الشبان الحجارة أو هددوا الجنود. والحدث في بيتونيا، الذي وثق وأظهر بان القتيلين لم يهددا الجنود، خدم هذا الزعم جيدا. وها هو، بالضبط في هذا التوقيت فضل القرب من اسرائيل على العناق الكامل للشارع، ووجد من السليم ان يبرز قضية المفقودين الاسرائيليين الثلاثة.

رئيس على بؤرة الاستهداف

الهجوم الاكثر حدة على ابو مازن في اعقاب خطاب جدة خرج بالذات من خارج مناطق السلطة. النائبة حنين الزعبي من التجمع الديمقراطي وجهت في مقابلة مع المذيعة رينا متسليح في برنامج “لقاء مع الصحافة” اتهاما خطيرا للرئيس.

“أنا لا أتفق مع رأيه. أنا أختلف مع الموقف ومع الاستراتيجية، هذا اذا كانت له استراتيجية”، قالت الزعبي ساخرة. “انا اختلف مع التنسيق الامني. هذه خيانة للشعب الفلسطيني. اعتقد أن ابو مازن وصل ليس الى مرحلة التنسيق الامني، بل وايضا التنسيق السياسي”.

وشرحت الزعبي بان “الاستراتيجية التي تتخذها السلطة الفلسطينية تستهدف تعزيز قوتها، بينما خيارها وخيار رفاقها هو انهاء وضع الاحتلال”. وقالت للمذيعة التي سألتها عن أمهات الخاطفين الثلاثة “انتِ تتحدثين عن الامهات؟ في الاعلام الاسرائيلي لا يتحدثون عن أمهات 360 رضيع قتلوا في حملة الرصاص المصبوب”.

وحتى الناطق بلسان حماس، سامي ابو زهري، الذي قال امورا مشابهة لما قالته الزعبي، عبر عن موقفه بلغة أرق. “هذه تصريحات غير مقبولة”، قال عن تصريحات ابو مازن، “فقد قدس التنسيق الامني، وصف الثلاثة “بالفتيان” ولم يشجب الاحتلال”. واضاف ابو زهري قائلا “ان من يتخلى عن خيار القوة، يعزل نفسه عن الاخرين”، وذكر أن مكان العملاء هو في السجن. “التنسيق الامني مع الاحتلال هو جريمة، يفرض القانون عليها اشد العقوبات”.

خالد مشعل هو الاخر، في مقابلة مع قناة “الجزيرة” أول أمس، طلب من ابو مازن التوقف عن هذا التعاون. وقال: “التنسيق مع اسرائيل مصيبة”. ورفض مشعل السماح للحقائق بالتشويش عليه: فقد ادعى بان المخطوفين هو جنود وقال ان مثل هذه العملية يفترضها الواضع الذي تحتجز فيه اسرائيل الاف السجناء الفلسطينيين. وانضم نائب مشعل في قيادة المكتب السياسي لحماس، اسماعيل هنية، الى تصريحات الشجب.

“الانتفاضة الفلسطينية هي احدى أكبر الظواهر التي شهدها التاريخ الحديث”، قال هنية. “عمل شباب الحجارة في الضفة الغربية المحتلة وفي الخليل يعيد الى الوعي الانتفاضة الحقيقية. نحن نوجه التحية لابناء الضفة والخليل الذين خرجوا من الخرائب واعادوا الى البحث المقاومة والمسألة الفلسطينية”.

احتجاج غير أديب

في الليلة التي بين السبت والاحد، عندما كان الجيش الاسرائيلي قد أنهى حملة الاعتقالات التي نفذها في رام الله، هجم عدة عشرات من الشبان على محطة الشرطة في المدينة بالحجارة. وقد فرقوا باطلاق النار ولم يصب احد بأذى. وكان هذا هو سبيلهم غير الاديب للاحتجاج على المساعدة التي تقدمها السلطة لاسرائيل في التحقيقات في الاختطاف.

وقد وجد الاحتجاج تعبيره بالطبع في الشبكات الاجتماعية ايضا. فقد نشر متصفحون شباب صورا لابو مازن وهو يعتمر الضمادة السوداء على عينه مثل وزير الدفاع في حرب الايام الستة موشيه دايان تحت عنوان “موشيه عباس″. وآخرون صمموا “شهادة شرف” اصدرتها زعما دولة اسرائيل لمحمود عباس على مساهمته في “حماية أمن اسرائيل ومكافحة الارهاب”. وصمم بعض من المتصفحين الابداعيين ابو مازن في أوضاع مهينة: ملقى به الى القمامة، او يكنس الى سلة مهملات التاريخ.

“تصريحات عباس ذبحتنا ودمرت معنوياتنا. هل السجناء في سجون الاحتلال ليسوا بشرا مثل الجنود المخطوفين؟”، قالت السجينة المحررة فاطمة الزق من غزة. وانتقدت ابو مازن على أنه لم يتحدث عن السجناء الفلسطينيين. وقالت الزق: “نحن نرحب بالعملية وفرحون بها جدا. فسجناؤنا لا يزالون في السجن، وهم يعانون. وضعهم الصحي يتفاقم من يوم الى يوم”.

انتقاد السجينة الحاد، في قسم منه على الاقل، ليس نزيها. فالرئيس الفلسطيني ذكر بالذات السجناء واضراب المعتقلين الاداريين.

واضافت الزق طالبة من الزعماء الفلسطينيين ايضا القيام بالمسؤوليات المتوقعة منهم تجاه السجناء.

مصدر في قيادة حماس في غزة قال لـ “معاريف المجلة” ان تصريحات ابو مازن تمزق اللثام عن وجه حكومة اسرائيل. “تحدث ضد الانتفاضة ومع المفاوضات وحتى هذا لم يكفِ نتنياهو. فعل كل شيء كي يسير في طريق السلام، ولكنكم لا تقبلونه”.

اذا فتش ابو مازن عن حضن دافيء يواسي نفسه فيه هذه الايام، فيمكن أن يجده في اليسار الاسرائيلي فقط.

“تصريحات ابو مازن الذي شجب الاختطاف، صحيحة وشجاعة”، قالت رئيسة ميرتس النائبة زهافا غلئون. “مثيرة للحفيظة حقيقة ان نتنياهو يدحرج المسؤولية الى بوابة السلطة بينما تساعد هي في التحقيقات”.

ومع أن غلئون دعت نتنياهو الى تعزيز ابو مازن، ولكن في مكتب رئيس الوزراء في القدس لم يسارعوا الى العمل بمشورتها – يحتمل انطلاقا من الحساسية الرامية الى ابعاد اتهامات التعاون مع اسرائيل عنه.

في ردها البارد على خطاب الرئيس في جدة دعت القدس ابو مازن مرة اخرى الى تفكيك الوحدة. فقد قالت مصادر في مكتب نتنياهو ان “الاختبار الحقيقي سيكون في الغاء الاتفاق مع حماس″.

( معاريف 26/6/2014 )