أزمة اقتصادية انفجرت لتعيد تشكيل العالم
قبل خمس سنوات، هي عمر الأزمة الاقتصادية العالمية، وفي زحمة تداعي المؤسسات المالية ومعها المؤسسات الاقتصادية إلى جانب الحكومات الهائمة على وجهها، وبعد عامين من خروجه من منصبه كرئيس للمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ظهر ألان جرينسبان ليعلن للعالم، أن الأزمة التي انفجرت للتو، لا مثيل لها في التاريخ، وإن تكررت، فهي لا تحدث إلا مرة كل مائة عام، وأن ''الفيدرالي الأمريكي'' لا يسيطر على الأمور، وأن الحكومات أكثر هشاشة من بنوكها المركزية. وماذا قال أيضاً؟ ''لا أتحمل وزر الأزمة''! ويضيف ''الأخطاء التي ارتُكبت لا تُنتج أزمة''! كان ذلك في أيلول (سبتمبر) من العام 2008، لكنه بعد أن هدأت العاصفة، اعترف بالأخطاء الايديولوجية لاقتصاد السوق الحرة. كان كغيره من ''المتيمين'' بهذا الاقتصاد ''المنفلت'' الرافض للحد الأدنى جداً من الأخلاقيات، يحمل الضحايا مسؤولية العدوان على أنفسهم!! فهو من أولئك الذين يؤمنون بتطرف، بأن الكل يخطئ إلا السوق وحرياتها. وأن المعايير التي يطالب بها البعض ليست سوى مُعطلات لها! كان السياسيون يصفقون لكنهم لم يلبثوا أن تحولوا من التصفيق إلى ''اللطم''.
قبل خمس سنوات كان العالم ينفجر، دون قنابل ولا صواريخ ولا أسلحة كيماوية أو بيولوجية، أو غيرها من معدات الدمار. كان الانفجار أخلاقيا، معيشيا، إنسانيا. وهذا النوع من الانفجارات يستحق توصيف ''الانفجار العضوي''، والخراب الناجم عن مثل هذا الانفجار، لا يقارن بذاك الذي يخلفه السلاح التقليدي. لقد دمر هذا الانفجار، من ضمن ما دمر ''قداسة'' السوق. وهذه ''القداسة'' كانت بالتحديد، النواة الرئيسة للانفجار الكبير. كان العالم، قبل خمس سنوات ينفجر، ولكنه في الوقت نفسه يتشكل رغماً عن ''المجرمين'' الهاربين من مسرح الجريمة، ورغم الفوضى التاريخية التي أصابت الحكومات، ومعها حتى الجهات التشريعية بل والقضائية. كانت عملية التشكل ''العضوي'' – إن جاز التعبير - للعالم، لا تقارن من حيث السرعة والتكوين، مع تلك الناجمة عن قرارات وسياسات اقتصادية سياسية جديدة. لقد كانت الأولى تفرض حقائقها بصورة طبيعية، وكانت الثانية تتباطأ، بل تتلكأ، في التناغم معها. فما كان من الأولى إلا أن جذبت الثانية غصباً بأشكال مختلفة، من بينها التخلص من السياسيين الواحد تلو الآخر. هؤلاء أسهموا بصورة أو بأخرى في الانفجار الكبير. فالسياسي قبل الأزمة لا ينفع لما بعدها، ولن ينفع، وتحديداً في العالم الغربي، الذي انفجرت في ''وجهه'' الأزمة، قبل أن يوزع خرابها على العالم.
بعد خمس سنوات من أزمة لا تشبهها أخرى، لا يزال العالم في مرحلة التشكيل. بعض الدول تجاوزتها ولكن ليس تماماً. ففي هذا العالم لا يمكن فصل البعض عن الكل. ولهذا السبب فإن مصائب البعض تعم على الكل في معظم الأحيان. البعض الآخر من هذه الدول توهم أنه تجاوزها. الغالبية العظمى من الدول التي أنتجت الأزمة لا تزال ''تناطح'' مخلفاتها. الولايات المتحدة، أوروبا، في المقدمة بالطبع. ديون الدول المانحة الكبرى (وليس ديون الدول الفقيرة) باتت خبراً يومياً. العجز في الموازنات العامة، أصبح مثل النشرات الجوية. أما البطالة فلم تعد حالة استثنائية، أو مرحلية، بل حالة دائمة متعاظمة المشكلات والأرقام والأعباء الإنسانية والاجتماعية. هل تقاعس السياسيون الغربيون الحاليون، في مواجهتهم للأزمة واستحقاقاتها؟ بالتأكيد. ففي حين أنهم يستطيعون العمل بصورة أكثر حرية ومرونة، باعتبارهم ليسوا من مرتكبي الأزمة، إلا أنهم تصرفوا بشكل مغاير في بعض الأحيان.
بعد خمس سنوات من الأزمة، لم تستكمل أدوات إصلاح السوق. فالأمر يحتاج إلى إقرار نهائي دائم لأدوات تمنع الوقوع في أزمة أخرى جديدة. وبعد هذه السنوات، لا يزال بعض من سلوكيات الأسواق المنفلتة، ولاسيما ''وول ستريت'' حاضراً على الساحة. صحيح أن هذه السلوكيات لم تعد بالقوة نفسها التي كانت عليها قبل الأزمة، لكنها لا تزال موجودة في ''الأركان'' وعند ''المنعطفات''. لا شك في أن الأمر يحتاج إلى مزيد من السنوات لإزالة آخر الأدران لأسوأ مبادئ اقتصادية شهدها العالم، منذ أن عرف علم الاقتصاد. فخراب عقود لا يمكن أن يُزال في سنوات قليلة. والمشاهد التي خلفتها الأزمة، لن تنتهي قبل خمس سنوات أخرى. هذا إذا سارت الخطوات التشريعية والرقابية والسلوكية في الدول التي صنعت الأزمة، بوتيرة سريعة يطلبها العالم أجمع.
هذه الأزمة لم تخلف دماراً أو خراباً فقط. بل أوجدت أمراضاً نفسية من نوع مختلف، وإلى أن يتشكل الاقتصاد العالمي بالصيغة التي تحترم المعايير البشرية، والمقاييس المجتمعية، وبالطبع القيم الأخلاقية، فإن الاضطرابات الاقتصادية الاجتماعية السياسية، ستبقى على الساحة بصور مختلفة. إن الأزمة الاقتصادية العالمية، انفجرت في الواقع لتعيد تشكيل عالم، بالحد الأدنى المستطاع من الأشرار.
( المصدر : الاقتصادية السعودية 2/10/2013 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews