عندما يهرب «صيادو الفرص» من بورصة بيروت
في العام 2007 ، بعث الملياردير والمستثمر الأميركي العالمي جورج سوروس، مدير مكتبه الاقليمي في المنطقة والقائم في اسطنبول، محمد زعتر، الى بيروت في رحلة استكشافية، هدفها دراسة فرص الاستثمار في الاسواق المالية اللبنانية.
يومها جرى الاتصال ببعض الاصدقاء المحليين لتدبُّر مواعيد للموفد. وكان اللافت في حينه، أن سوروس، وعبر مدير مكتبه، لم يطلب رؤية رجال الاعمال او الهيئات الاقتصادية، بل حصر اللقاءات، باستثناء لقاء او اثنين، مع السياسيين.
وقد رافق احد الاصقاء اللبنانيين موفد سوروس في جولته السياسية، وفوجئ انه لا يسأل عن الوضع المالي او الاقتصادي. بل كان يحصر الاسئلة بالوضع السياسي، ورؤية كل طرف في شأن أبعاد الأزمة السياسية القائمة. وقد حرص سوروس في حينه على إبقاء هذه الجولة سرية وبعيدة من متناول الاعلام.
خلال وجوده في بيروت، كان السؤال الاكثر تداولا في اجتماعات الموفد، هو لماذا اختار سوروس هذا التوقيت، حيث تبدو الاوضاع مضطربة، والمخاطر مرتفعة. وكان الجواب الثابت، أن سوروس يبحث دائما عن الفرص الاستثمارية ذات المخاطر المرتفعة، لجني أرباح أكبر. وهو في الاجمال يختار اسواقا مضطربة مستقبلها غامض، يراهن على انها ستتحسّن، ويدخل اليها في الحقبة السوداء ويخرج منها في الحقبة البيضاء بعدما يكون قد جنى ارباحا طائلة.
انتهت الجولة، وقرّر سوروس ان الاسواق اللبنانية غير ملائمة للاستثمار. هذا الاستنتاج توصل اليه بعد التعرّف والاستماع الى مجموعة من السياسيين في لبنان. وحتى الان لا يُعرف تحديدا لماذا اعتبر الملياردير اليهودي العالمي من اصول بلغارية، أن اسواق بيروت غير مناسبة للاستثمار. هل اعتبر ان المرحلة الضبابية التي كانت سائدة في حينه سوف تستمر طويلا؟ ام انه رأى ان حجم الأرباح لا يتناسب مع حجم المخاطر؟
في النتيجة، واذا كان هناك من عبرة يمكن استنتاجها من هذه التجربة، هي ان المستثمرين العالميين يتفحصون الوضع السياسي، وأفكار السياسيين قبل المبادرة الى الاستثمار في اي بلد. ليس لأن الاوضاع المالية والاقتصادية لا تهمهم، بل لأن الاطلاع عليها سهل اكثر من خلال الارقام والنتائج الظاهرة للعيان. اما السياسة، في دول العالم الثالث، فانها تبقى المحرّك الرئيسي للاقتصاد وهي مسؤولة عن انتعاشه او ركوده. ومن هنا تُمكن قراءة القرار الذي اتخذته الهيئات الاقتصادية في لبنان، بالضغط من اجل تاليف حكومة تتولى ادارة شؤون البلد.
في عودة الى الاوضاع المالية السائدة، يتبين أن المالية العامة هي التي تعاني حاليا اكثر من غيرها. ويبدو ان الفواتير المتراكمة على الدولة سوف ترتفع اكثر فاكثر مع الوقت، في حال استمرت الاوضاع كما هي اليوم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يطالب المتعهدون بأموالهم المستحقة عن تنفيذ تلزيمات عامة. ويهددون بوقف الأعمال في المشاريع اذا لم يتم تسديد الفواتير.
كذلك تطالب تعاونية موظفي الدولة بمستحقاتها. ولجأت هيئة التنسيق الى توجيه انذار مدته اسبوعان لتسديد المستحقات. كذلك، تتحرك الشوارع من صيدا الى الضاحية وصولا الى طرابلس لتسريع عمليات دفع التعويضات الى المتضررين من المعارك والتفجيرات. وآخر الفئات المعترضة هم مزارعو القمح، إذ تؤجل الدولة شراء محصولهم، بسبب ضيق الحال.
قراءة هذا المؤشرات لا يمكن ان تقود الى الاستنتاج بأن وزير المال يشتري المشاكل لنفسه، ويوقف دفع مستحقات الناس من اجل تأليب الرأي العام ضده. التفسير الوحيد هو ان وزارة المال لا مال كافٍ لديها لتلبية كل الاحتياجات. ومن البديهي انها تعطي مسألة دفع الرواتب الاولوية، ثم تحاول توزيع ما تبقى على الفواتير المتراكمة. وكلما صرخ قطاع اكثر من الآخر تلبّيه ببعض الما لإسكاته.
الى ذلك، وعلى رغم ان تداعيات الأزمة السورية على الوضع الاقتصادي واضحة، الا ان بالامكان التعاطي مع الامر الواقع باسلوب مبتكر يخفف الأضرار. ويمكن البدء بمسألة خصخصة بورصة بيروت التي تحولت، بعد 93 عاما على تأسيسها، الى مقبرة لاسهم 13 شركة مدرجة فيها، مع الاشارة الى ان التداول الفعلي يتم في اربعة او خمسة شركات فقط. ولا يستغني الأمر، أن تعمد بعض ادارات الشركات المدرجة الى ابتكار عمليات بيع وشراء "وهمية" لتحريك السوق نظرياً، والايحاء بأن الاسهم عليها عرض وطلب.
هذا الوضع لا يمكن ان يستمر فيما الاقتصاد يحتضر. هناك حاجة ملحة اليوم، الى تغيير نمط عمل البورصة، لأنها قادرة على جذب الاستثمارات، مهما ساءت الاوضاع الامنية والسياسية، لأن صيادي الفرص يتربصون دائما هذا النوع من الاسواق، ودخول هؤلاء الى السوق المحلي، يخدم الاقتصاد، ولو أنهم سيخرجون منه بثروات طائلة.
بعد ست او سبع سنوات تحتفل بورصة بيروت بمئويتها الأولى، ولا يجوز أن تحل هذه الذكرى، والبورصة باقية كما هي اليوم. اذا تمّ بذل جهد جدّي منذ الآن، نصل الى المئوية، ولدينا بورصة ناشطة حجم أعمالها محترم، وتتداول فيها اسهم مئات الشركات. ولا ننسى أن قطاع النفط ومشتقاته قد يكون من القطاعات المرشحة لدخول هذه البورصة. وبالتالي، ينبغي العمل على تحضير الاسواق المالية لهذه المرحلة الجديدة.
هذا اذا وصل البلد الى مرحلة استخراج النفط.في العام 2007 ، بعث الملياردير والمستثمر الأميركي العالمي جورج سوروس، مدير مكتبه الاقليمي في المنطقة والقائم في اسطنبول، محمد زعتر، الى بيروت في رحلة استكشافية، هدفها دراسة فرص الاستثمار في الاسواق المالية اللبنانية. يومها جرى الاتصال ببعض الاصدقاء المحليين لتدبُّر مواعيد للموفد.
وكان اللافت في حينه، أن سوروس، وعبر مدير مكتبه، لم يطلب رؤية رجال الاعمال او الهيئات الاقتصادية، بل حصر اللقاءات، باستثناء لقاء او اثنين، مع السياسيين. وقد رافق احد الاصقاء اللبنانيين موفد سوروس في جولته السياسية، وفوجئ انه لا يسأل عن الوضع المالي او الاقتصادي. بل كان يحصر الاسئلة بالوضع السياسي، ورؤية كل طرف في شأن أبعاد الأزمة السياسية القائمة. وقد حرص سوروس في حينه على إبقاء هذه الجولة سرية وبعيدة من متناول الاعلام.
خلال وجوده في بيروت، كان السؤال الاكثر تداولا في اجتماعات الموفد، هو لماذا اختار سوروس هذا التوقيت، حيث تبدو الاوضاع مضطربة، والمخاطر مرتفعة. وكان الجواب الثابت، أن سوروس يبحث دائما عن الفرص الاستثمارية ذات المخاطر المرتفعة، لجني أرباح أكبر. وهو في الاجمال يختار اسواقا مضطربة مستقبلها غامض، يراهن على انها ستتحسّن، ويدخل اليها في الحقبة السوداء ويخرج منها في الحقبة البيضاء بعدما يكون قد جنى ارباحا طائلة.
انتهت الجولة، وقرّر سوروس ان الاسواق اللبنانية غير ملائمة للاستثمار. هذا الاستنتاج توصل اليه بعد التعرّف والاستماع الى مجموعة من السياسيين في لبنان. وحتى الان لا يُعرف تحديدا لماذا اعتبر الملياردير اليهودي العالمي من اصول بلغارية، أن اسواق بيروت غير مناسبة للاستثمار. هل اعتبر ان المرحلة الضبابية التي كانت سائدة في حينه سوف تستمر طويلا؟ ام انه رأى ان حجم الأرباح لا يتناسب مع حجم المخاطر؟
في النتيجة، واذا كان هناك من عبرة يمكن استنتاجها من هذه التجربة، هي ان المستثمرين العالميين يتفحصون الوضع السياسي، وأفكار السياسيين قبل المبادرة الى الاستثمار في اي بلد. ليس لأن الاوضاع المالية والاقتصادية لا تهمهم، بل لأن الاطلاع عليها سهل اكثر من خلال الارقام والنتائج الظاهرة للعيان. اما السياسة، في دول العالم الثالث، فانها تبقى المحرّك الرئيسي للاقتصاد وهي مسؤولة عن انتعاشه او ركوده. ومن هنا تُمكن قراءة القرار الذي اتخذته الهيئات الاقتصادية في لبنان، بالضغط من اجل تاليف حكومة تتولى ادارة شؤون البلد.
في عودة الى الاوضاع المالية السائدة، يتبين أن المالية العامة هي التي تعاني حاليا اكثر من غيرها. ويبدو ان الفواتير المتراكمة على الدولة سوف ترتفع اكثر فاكثر مع الوقت، في حال استمرت الاوضاع كما هي اليوم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يطالب المتعهدون بأموالهم المستحقة عن تنفيذ تلزيمات عامة. ويهددون بوقف الأعمال في المشاريع اذا لم يتم تسديد الفواتير. كذلك تطالب تعاونية موظفي الدولة بمستحقاتها.
ولجأت هيئة التنسيق الى توجيه انذار مدته اسبوعان لتسديد المستحقات. كذلك، تتحرك الشوارع من صيدا الى الضاحية وصولا الى طرابلس لتسريع عمليات دفع التعويضات الى المتضررين من المعارك والتفجيرات. وآخر الفئات المعترضة هم مزارعو القمح، إذ تؤجل الدولة شراء محصولهم، بسبب ضيق الحال.
قراءة هذا المؤشرات لا يمكن ان تقود الى الاستنتاج بأن وزير المال يشتري المشاكل لنفسه، ويوقف دفع مستحقات الناس من اجل تأليب الرأي العام ضده. التفسير الوحيد هو ان وزارة المال لا مال كافٍ لديها لتلبية كل الاحتياجات. ومن البديهي انها تعطي مسألة دفع الرواتب الاولوية، ثم تحاول توزيع ما تبقى على الفواتير المتراكمة. وكلما صرخ قطاع اكثر من الآخر تلبّيه ببعض الما لإسكاته.
الى ذلك، وعلى رغم ان تداعيات الأزمة السورية على الوضع الاقتصادي واضحة، الا ان بالامكان التعاطي مع الامر الواقع باسلوب مبتكر يخفف الأضرار. ويمكن البدء بمسألة خصخصة بورصة بيروت التي تحولت، بعد 93 عاما على تأسيسها، الى مقبرة لاسهم 13 شركة مدرجة فيها، مع الاشارة الى ان التداول الفعلي يتم في اربعة او خمسة شركات فقط. ولا يستغني الأمر، أن تعمد بعض ادارات الشركات المدرجة الى ابتكار عمليات بيع وشراء "وهمية" لتحريك السوق نظرياً، والايحاء بأن الاسهم عليها عرض وطلب.
هذا الوضع لا يمكن ان يستمر فيما الاقتصاد يحتضر. هناك حاجة ملحة اليوم، الى تغيير نمط عمل البورصة، لأنها قادرة على جذب الاستثمارات، مهما ساءت الاوضاع الامنية والسياسية، لأن صيادي الفرص يتربصون دائما هذا النوع من الاسواق، ودخول هؤلاء الى السوق المحلي، يخدم الاقتصاد، ولو أنهم سيخرجون منه بثروات طائلة.
بعد ست او سبع سنوات تحتفل بورصة بيروت بمئويتها الأولى، ولا يجوز أن تحل هذه الذكرى، والبورصة باقية كما هي اليوم. اذا تمّ بذل جهد جدّي منذ الآن، نصل الى المئوية، ولدينا بورصة ناشطة حجم أعمالها محترم، وتتداول فيها اسهم مئات الشركات. ولا ننسى أن قطاع النفط ومشتقاته قد يكون من القطاعات المرشحة لدخول هذه البورصة. وبالتالي، ينبغي العمل على تحضير الاسواق المالية لهذه المرحلة الجديدة. هذا اذا وصل البلد الى مرحلة استخراج النفط.
( المصدر :الجمهورية اللبنانية 17/9/2013 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews