تجارة النفط العالمية تشهد تغييرات جوهرية

بقاء الحال من المحال، هذه هي سُنة الحياة، التغيير ينطبق أيضا على أسواق الطاقة والنفط العالمية، فديناميكية هذه الأسواق تشهد دائما تغييرا في اتجاهات العرض والطلب، حركة التجارة وما غير ذلك.

إن هيكل العلاقة بين المناطق الجغرافية الثلاث لأسواق النفط العالمية، حوض المحيط الأطلسي، آسيا - المحيط الهادئ، ومنطقة الشرق الأوسط - الخليج العربي، تشهد تحولا جذريا؛ حيث إن مصادر الإمدادات الجديدة في أمريكا الشمالية وانخفاض الطلب على النفط في الاقتصاديات الصناعية في حوض الأطلسي، خصوصا في أوروبا حولت حوض الأطلسي إلى مصدر صاف للنفط الخام في العام الماضي. إن المنطقة التي تشمل الأمريكتين، أوروبا، إفريقيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق قد شحنت في العام الماضي كميات من النفط الخام إلى غرب منطقة السويس أكثر مما استوردته من منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، حسب نشرة شركة بريتش بتروليوم الإحصائية عن الطاقة العالمية التي صدرت في لندن. هذا التحول في ميزان تجارة النفط العالمية خلق نوعا من المنافسة الجديدة للمنتجين في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي وللزبائن في أسواق منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

الدور التقليدي لأسواق حوض المحيط الأطلسي كان التنافس مع المصافي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ على نفط منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، لكن هذا النوع من التنافس لم يعد قائما الآن. من الواضح جدا أن الانخفاض في الطلب على النفط في أسواق الدول الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية لا رجعة فيه، حيث إن أسطول المركبات في الولايات المتحدة حقق مكاسب في تحسين الكفاءة، وأن هذا الاتجاه من المتوقع أن يستمر في السنوات المقبلة. كما أن الوقود الحيوي شكل جزءا متناميا من الطلب على وقود النقل، على الرغم من التحديات التي يواجهها. إضافة إلى ذلك تم بالفعل إغلاق أجزاء كبيرة من قاعدة الصناعات التحويلية في أوروبا نتيجة المنافسة القوية من قبل الصناعات المماثلة لها في الدول غير الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ومن القوى العاملة الرخيصة فيها حتى قبل الأزمة المالية التي أدت إلى تسريح أعداد ضخمة من العاملين في أوروبا وأمريكا.

في هذا الجانب، أوضحت مصادر شركة بريتش بتروليوم خلال إطلاق تقريرها السنوي أن التحول الكبير في مركز ثقل الاقتصاد العالمي نحو ما يسمى الدول النامية والناشئة استمر بقوة في العام الماضي أيضا، حيث إن الطلب على النفط استمر في التراجع في الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية على خلفية ضعف الاقتصاد الأوروبي وردود الفعل القوية للمستهلك من استمرار ارتفاع أسعار الطاقة المعززة بالضرائب الضخمة المفروضة على الوقود، خاصة في قطاع النقل والمواصلات. كما أن الاقتصاد في استهلاك الوقود في السيارات الأمريكية الجديدة قد تحسن بشكل ملحوظ، في الوقت نفسه نمت إمدادات حوض الأطلسي بقوة.

إن هذه الاتجاهات في العرض والطلب ساعدت على الحد نوعا ما من اعتماد الدول الغربية على نفط منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، ساعدت أيضا على تغيير ميزان تجارة النفط العالمية. في العام الماضي، بلغ صافي تصدير حوض المحيط الأطلسي نحو 1.4 مليون برميل في اليوم من شحنات النفط، 900 ألف برميل في اليوم نفط خام، ونحو 500 ألف برميل في اليوم منتجات نفطية. لقد تحول حوض الأطلسي من مستورد صافٍ إلى مورد صاف للمنتجات النفطية في عام 2009 بعد الانخفاض الكبير في الطلب على النفط على خلفية الأزمة المالية العالمية.

إن الطلب على النفط في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ينمو بقوة، لكن إنتاجها من النفط مستقر إلى حد ما. هذا الاتجاه كان من المفترض أن يجعل من منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي المورد الطبيعي لتزويد منطقة آسيا بحاجتها المتزايدة من النفط. إن الطاقات الإنتاجية الاحتياطية للمنتجين في دول الخليج العربي وبصورة خاصة المملكة العربية السعودية توفر للمنطقة الإمكانية للمحافظة على التوازن في أسواق النفط العالمية وتوفير الإمدادات الكافية للدول المستهلكة، لكن تفوُّق هذه الدول في الأسواق الآسيوية قد يواجه بعض التحديات أو على الأقل بعض المنافسة، حيث إن المنافسة خصوصا من قبل أمريكا اللاتينية، إفريقيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق في توريد النفط إلى الاقتصاديات السريعة النمو في شرق وجنوب آسيا آخذة في الارتفاع. خصوصا مع ارتفاع الإمدادات النفطية من الدول المنتجة من خارج منظمة أوبك، في هذا الجانب تشير معظم المصادر إلى أن إمدادات هذه الدول من المتوقع أن ترتفع في المتوسط بنحو مليون برميل في اليوم على مدى السنوات الخمس المقبلة، هذا قد يرفع من سقف المنافسة.

إن خريطة تجارة النفط العالمية ستتغير لا محالة. في حالة عدم حدوث تباطؤ حاد في نمو الإمدادات من تشكيلات الصخر الزيتي ورمال القار الكندية، فإن المنتجين في منطقة الخليج والشرق الأوسط سيجب عليهم المنافسة أكثر للمحافظة على حصصهم في أسواق آسيا والمحيط الهادئ.

في ظل الظروف العادية، أو ما يعرف بالأسواق المثالية، إذا ما كان لدينا مثل هذه الزيادة الكبيرة في الإمدادات، كنا سنرى استجابة سريعة من قبل الأسواق ردا على ذلك، وتراجعا في الأسعار. لكن أسواق النفط لا تتأثر الآن فقط بالعرض والطلب، بل إن هناك العديد من العوامل الأخرى التي تؤثر في الأسوق، مثل نشاط المضاربين، التوترات الجيوسياسية، حركة أسواق المال والعملات وغير ذلك من العوامل.

( المصدر : الاقتصادية السعودية 14-8-2013 )