لتجنب مخاطر وجود كفاءات القطاع الخاص في الحكومة
في مقال سابق كتبت عن القطاع العام والقطاع الخاص، فالنظرية مختلفة، والنشأة والتاريخ والأهداف مختلفة، ولهذا جاء الفكر الإداري منفصلا بينهما حتى تحول هذا الانفصال إلى كليات وأقسام متباعدة بل حتى كليات منفصلة، ولهذا كله فنحن نحتاج إلى إدارة متخصصة للقطاع العام وإدارة متخصصة للقطاع الخاص، فإذا أردنا أن ندير القطاع العام بفكر القطاع الخاص فستكون مشكلة هائلة في الاقتصاد. لماذا، وكيف؟
لقد بدأت البشرية فهم العلاقات فيما بينها من واقع الملكية الفردية، ولأن الإنسان كائن اجتماعي كان لا بد من تطوير العلاقات بين البشر، خاصة في تنظيم الملكية الفردية وتحديدها وتجريم الاعتداء عليها، ولهذا ومن زمن الأنبياء في العرب البائدة كانت مشكلة تفسير الملكية الفردية قضية نقاش وجدل واسع. فهذا شعيب يضع قواعد وأسسا لمعنى الحرية في الملكية الفردية، قال جل وعلا "قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد"، فظنوا أنه من الحكمة والرشد أن يفعل الإنسان في ماله ما يشاء، على أساس الملكية الفردية الحرة. فالنقاش حول هذا الموضوع قديم قدم البشرية على ظهر البسيطة، وتطرفت الأمم في هذا الموضوع حتى ظهرت الرأسمالية المفرطة في إنجلترا وأوروبا، ثم الشيوعية المتطرفة في روسيا والصين، وظهر عمالقة الفكر الاقتصادي منذ تأسس علم الاقتصاد على يد آدم سميث المتطرف الرأسمالي وحتى ماركس المتطرف الشيوعي. وإذا قمت بتصفية النقاش وجدت الأمر يدور جزئيا حول دور القطاع العام في الشعوب، ومن يملك وسائل الإنتاج على وجه الحقيقة. لم تستطع الشيوعية أن تنجح وهي التي سعت إلى إلغاء القطاع الخاص تماما وتسليم زمام الأمر إلى قطاع عام يديره حزب دكتاتوري، وصولا إلى إلغاء الحزب بعد بناء الجنة على الأرض. فرغم قوة الجدل والحجج والتنظير الهائل لم تستطع الشيوعية أن توجد الجنة على الأرض، وجاءت بدلا عنها بالبؤس والحرمان وسفك الدماء، وبقي صوت رغبة الإنسان في التملك الحر عاليا. في مقابلها وجد منظرو الرأسمالية أن هناك دورا لقطاع "عام" لا يملك شيئا لكنه لا بد ـــ في الوقت نفسه ـــ أن يقوم بتنفيذ كثير من الإصلاحات التنموية والعدالة الاجتماعية. ولكن كيف يقوم بهذا الدور وهو لا يملك شيئا، خاصة بعد إلغاء الملكية في أوروبا التي كانت تنظم العلاقات بين أفراد الشعب على أساس حياد الملك وملكه المطلق. كانت الشعوب في حاجة إلى قطاع عام لا يملك شيئا، ومع ذلك لديه ثروة ليقود التنمية. ولهذا تم ابتكار فكرة الحكومات البرلمانية، التي يدفع المجتمع ضرائب مقابل التصويت لتشكيلها، لتمثل هذه الحكومات القطاع العام الذي لا يملك وسائل إنتاج، ودوره هو تنظيم الأسواق والقيام بالخدمات العامة، فهو قطاع خدمي في المقام الأول يحصل على إيراداته من خلال عقد اجتماعي يخوله أن يقوم بجمع الضرائب من المواطنين الذين يمتلكون كل شيء تقريبا، وعلى هذا القطاع أن يقدم لهؤلاء المواطنين خدمات عادلة محايدة. فهذا القطاع غير منتج للثروة بطبعه، يعتمد في إيراداته على جهد العمال والشعب "القطاع الخاص" الذي يملك كل شيء، ويقوم الشعب بدفع ضرائب للقطاع العام. وهكذا إذا زاد حجم الاقتصاد ونجح القطاع الخاص في إنتاج ثروات ضخمة وانتعشت الأسواق كانت الدولة غنية والضرائب كبيرة وميزانية الحكومات تتمتع بفوائض هائلة، والخدمات متميزة والتنمية في أعلى مستوياتها، والعكس صحيح، إذا كان القطاع الخاص كسولا وإنتاجه للثروة ضعيفا كانت حصيلة الضرائب محدودة والحكومات فقيرة والميزانية في حالة عجز والتنمية هزيلة. بلا شك ستطرح عزيزي القارئ سؤالا عن فساد الحكومة "القطاع العام". تفسد الحكومة إذا انحازت إلى فئة دون أخرى من مكونات المجتمع، وتفسد الحكومة إذا كانت توجه الضرائب وإيراداتها نحو تضخيم الرواتب. فيصبح القطاع الخاص يعمل ويدفع الضرائب لتذهب نحو تنمية ثروات موظفي القطاع العام ومنتفعيه وليس من أجل تنمية الاقتصاد التي تعود بالنفع على القطاع الخاص ومن ثم قدرته على زيادة الإنتاج ودفع ضرائب أكثر في المستقبل. وهذا ما وقع فيه كثير من دول العالم التي نشبت فيها ثورات وحروب أهلية، ومنها عديد من الدول الفقيرة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وحتى اليونان مع الأزمة الحادة التي أصابتها.
إذاً فإن فلسفة القطاع العام خاصة في موضوع الرواتب تختلف تماما عن فلسفة القطاع الخاص في هذا الجانب بالذات، وهو أخطر الجوانب على التنمية ومستقبل الاقتصاد. من يعمل في القطاع العام فإنه يأخذ راتبه من حصيلة الضرائب، وليس لذلك علاقة بإنتاجيته ولا ساعات عمله. بمعنى أنه مهما زاد الموظف في القطاع العام من ساعات عمله فلن تزيد الحصيلة العامة للضرائب. ذلك لأن حصيلة الضرائب إنما تزداد بساعات العمل في القطاع الخاص، ولهذا نجد مبررا أن يحصل رئيس تنفيذي في قطاع خاص على مئات الآلاف كراتب، لكن من الصعب أن نجد مبررا لمثل هذه الرواتب في القطاع العام. ولهذا أيضا نستطيع أن نوحد الرواتب في القطاع الحكومي وفق لائحة، حيث لا يختلف وزير عن وزير ولا مرتبة عن مرتبة مهما اختلفت الأماكن والجهات، لكن من الصعب قبول توحيد الرواتب بين شركة قطاع خاص وأخرى حتى في المجموعة نفسها. ذلك أن إيرادات الشركة مرتبطة بجهد موظفيها.
ما أود طرحه هنا، أن الكفاءات في القطاع الحكومي لا تبرر تنامي ثرواتهم ورواتبهم، ومن يخرج من القطاع الخاص للعمل في القطاع الحكومي فعليه أن يرضى برواتب القطاع الحكومي مهما كانت كفاءته، ذلك أن تضخيم الرواتب أو العوائد بأي طريقة في القطاع الحكومي أو لبعض أفراده ولو بحجة كفاءة الشخص سيقود إلى كارثة في الاقتصاد، وهذا ما حصل في اليونان تماما، ولهذا عارضت ألمانيا بشدة دعم اليونان ما لم تقم اليونان بإصلاحات قاسية في رواتب الحكومة، فلما بدأت الإصلاحات جاءت الثورة والمظاهرات والفقر. فمن الخطير جدا على الاقتصاد أن تتسرب قيادات في القطاع الخاص للقطاع العام مع بقاء عوائدهم عند مستواها المرتفع، ثم يقوم القطاع العام بتبرير منحهم هذه العوائد الضخمة، على أساس الكفاءة، ونقل التجارب وعلى مبرر أنه إذا لم يتم منحهم هذه العوائد فلن تتم الاستفادة منهم في القطاع العام. فالعمل في القطاع العام تضحية، لكن يقابلها عدم ربط الراتب بالعوائد، فلا ضغوط في العمل ولا خوف من الفصل، نتيجة انخفاض دخل المؤسسة.
(المصدر: الاقتصادية 2016-02-13)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews