اليونان ومفاتيح حل الأزمة الاقتصادية
”إن أغلب اليونانيين لا يريدون الخروج من منطقة اليورو ولكنهم يرفضون في الوقت نفسه شروط الاتحاد الأوروبي، ويرون بأنها مُجحفة بحقهم وبحق بلادهم، وإنها ذات بعدٍ سياسي يُكبّل اليونان، وتَزِيدُ من حجم الأعباء على القاع الاجتماعي وسواد المواطنين في اليونان من خلال فرض زيادة الضرائب، وتقليل النفقات الاجتماعية المقدمة لعموم الناس من قبل الحكومة.”
تُحاول اليونان الخروج من عُنق الزجاجة، وتجاوز أزماتها الاقتصادية، وأزمات العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي التي ما زالت مُتمسّكة بشروطها لإنقاذ ومساعدة اليونان على تجاوز أزمتها الاقتصادية والمالية، وذلك بالرغم من كون اليونان من الدول الأعضاء المؤسسين في مجموعة دول الاتحاد الأوروبي.
ومن الواضح أن سيف الشروط المُسلط على اليونان من قبل دول منطقة اليورو، جَعَلَ من الحراكات الشعبية السياسية تتزايد في الشارع اليوناني رفضًا لتلك الشروط، ورفضًا للقبول بها أو الاستجابة حتى الجزئية له، خصوصًا مع صعود حزب (سيريزا) بالانتخابات البرلمانية التي جرت قبل أقل من عامٍ مضى، واتكائه على قاعدة شعبية عريضة في رفض شروط دول الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو بشأن مساعدة اليونان.
إن مفاعيل الأزمات الاقتصادية والمالية ما زالت تُخيّم على اليونان بالرغم من الخطوات الجريئة والشجاعة التي اتخذتها حكومة زعيم حزب (سيريزا) إليكسيس تسيبراس، والتي تشكّلت بُعيد الانتخابات البرلمانية المُبكّرة لاختيار أعضاء البرلمان اليوناني والتي جرت في تموز/يوليو الماضي 2015. وذلك عندما رفضت وصفات الاتحاد الأوروبي وشروطه المجحفة من أجل تقديم خطة الإنقاذ والمساعدات المالية الطارئة لليونان. فالدرس البليغ الذي قدمه الشعب اليوناني في حينها وعبر صناديق الاقتراع، هو دفع الحكومة وعموم القوى والأحزاب للتعاطي مع الغالبية العظمى من عامة الشعب ومع القاع الاجتماعي وسماع صوته، وليس تجاهل رأي الناس والشارع بشأن القضايا السياسية والاقتصادية الكبرى وأزمات اليونان وعلاقاتها مع منطقة اليورو ورفضها لشروطها.
فالشعب اليوناني يَعودُ مرة ثانية إلى الشارع حيث المسيرات الاحتجاجية للتعبير عن رفضه لسياسات التقشف الجديدة المفروضة أوروبيًّا، وهي سياسات تَمُسُ الحياة العامة للناس بجوانبها المختلفة حال تطبيقها وخصوصًا على مستوى المعيشة. وعندما تتمسك دول منطقة اليورو في شروطها بشأن مساعدة اليونان اقتصاديًّا وماليًّا، فإنها تَضَع نفسها في مواجهة الشعب اليوناني ككل، وهو ما يُهدد بإمكانية انسحاب اليونان من مجموعة دول الاتحاد، وهو ما لا تريده تلك المجموعة أصلًا، ولا حتى اليونان، وهو احتمال متواضع على كل حال.
والجديد بالأمر أن حكومة زعيم حزب (سيريزا) اليساري إليكسيس تسيبراس دعت المواطنين كافة المواطنين للمشاركة بتلك الفعاليات الاحتجاجية والمظاهرات ضد شروط الاتحاد الأوروبي من أجل مساعدة اليونان على التوصل لحلولٍ ناجعة للأزمات المالية والاقتصادية التي تعانيها. تلك الفعاليات والمسيرات الاحتجاجية التي جرى تنظيمها أساسًا من قبل اتحاد نقابات العمال واتحاد موظفي الدولة واتحاد فروع العمال المكافحين، وأعضاء من الحزب الحاكم ذاته.
لقد تقاعست دول الاتحاد الأوروبي من وجهة نظر عامة الناس في اليونان في تقديم حزمة المساعدات المطلوبة للبلد، فيما ترى دول الاتحاد الأوروبي بأن حكومة اليونان لم تنفذ الإصلاحات التي وعدت بها وذلك كشرط من أجل تقديم المساعدات الجديدة لليونان وقيمتها مليارا يورو. والإصلاحات التي تُطالب بها دول الاتحاد الأوروبي ثمنًا لإنقاذ اليونان من الإفلاس, تَشمَل زيادات ضريبية ضخمة, وتسريحًا لأعدادٍ جيدة من الموظفين, وإجراء تخفيضات في الرواتب، وتطبيق سياسات تقشفية على كل المستويات.
واللافت للانتباه هنا، أن جاءت تلك الفعاليات الاحتجاجية في جانبٍ منها ضد بعض الإجراءات الحكومية التي أرقتها حكومة حزب (سيريزا) اليساري، كزيادة الضرائب والمطالبة بإصلاح قانون التقاعد، في إشارة صارخة للموقف المُلتبس لرئيس الحكومة وزعيم حزب (سيريزا) اليساري إاليكسيس تسيبراس، الذي تَمَرَدَ عليه قسم كبير من أعضاء حزبه، وخُمس نوابه، بعدما أَذعن بشكلٍ أو بآخر للشروط القاسية لبرنامج قروض جديد مقدمة من دول الاتحاد الأوروبي تحت عنوان (خطة الإنقاذ)، والتي وَصَفَ القبول بها بـ”التسوية المؤلمة” وبـ”التراجع التكتيكي” للحؤول دون إفلاس البلاد والخروج من منطقة اليورو أو حتى الاتحاد الأوروبي.
إن زعيم حزب (سيريزا) كان بعد فوز حزبه في البرلمان في الانتخابات الأخيرة قد دعا إلى تشكيل حكومة يسارية لرفض الاتفاقات التي وقعتها أثينا مع الاتحاد الأوروبي سابقًا, ومع صندوق النقد الدولي, وتمزيق اشتراطات خطة الإنقاذ الاقتصادي التي طرحها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي على اليونان. لكن تلك التكويعة في مواقفه جاءت كنتيجة لحجم الوضع الاقتصادي المُـتأزم داخل اليونان، ووقوف الحزب القوي حزب الديمقراطية الجديدة والمُنافس له في صف الدعوة للمواءمة مع شروط الاتحاد الأوروبي للإنقاذ المالي والاقتصادي. فالمأزق الإضافي في الوضع اليوناني يَتَمَثّل الآن في اختلاف وتضارب وجهات النظر بين أكبر حزبين مُتنافسين، حزب سيريزا اليساري، وحزب الديمقراطية الجديدة اليميني، بخصوص كيفية التعامل مع منطقة اليورو, ومبدأ قبول شروط الاتحاد الأوروبي من عدمه, وهو ما وضع رئيس حزب (سيريزا) في موقف صعب ومُلتبس أمام جمهور حزبه ومنتخبيه.
إن المعطيات على أرض الواقع تُشير بأن دول الاتحاد الأوروبي لا تريد ولا ترضى بخروج اليونان من منطقة اليورو، كما أن أغلب اليونانيين لا يريدون الخروج من منطقة اليورو ولكنهم يرفضون في الوقت نفسه شروط الاتحاد الأوروبي، ويرون بأنها مُجحفة بحقهم وبحق بلادهم، وأنها ذات بعدٍ سياسي يُكبّل اليونان، وتَزِيدُ من حجم الأعباء على القاع الاجتماعي وسواد المواطنين في اليونان من خلال فرض زيادة الضرائب، وتقليل النفقات الاجتماعية المقدمة لعموم الناس من قبل الحكومة.
وخلاصة القول، إن حزب (سيريزا) كَسِبَ أصوات الناس في الانتخابات الأخيرة بحصوله على ما يفوق الـ(61%) من أصوات الناس تحت شعار لا للتقشف والرضوخ لوصفات صندوق النقد بزيادة الأسعار وتخفيض الرواتب لسداد الديون وفرض المزيد من الضرائب على عامة الناس والمجتمع. وبالتالي فإن الحزب أمام استحقاق ما طرحه أثناء الانتخابات الأخيرة. كما أن الخَضّات والهزات الجديدة في اليونان وبوجود الحزب اليساري (سيريزا) على رأس هرم السلطة التنفيذية في البلاد، تُشير بشكلٍ صارخ بأن الشعب اليوناني لا يريد الخضوع لشروط الاتحاد الأوروبي بشأن التعامل مع أزمات اليونان الاقتصادية ولوصفات النظام الدولي المُعولم في الوقت الذي يتمسك به بعلاقاته مع المنظومة الأوروبية في إطار مجموعة الاتحاد، وانطلاقًا من ذلك فإن مفاتيح الحلول المتوقعة للأزمة الاقتصادية والمالية في اليونان ستكون بالضرورة في المواءمة المنطقية بين حل الأزمة والتوافق المُمكن مع دول الاتحاد الأوروبي دون النزول عند كامل اشتراطاتها المطروحة على اليونان.
(المصدر: الوطن العمانية 2016-01-08)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews