فى أصول الأزمة الاقتصادية وتجاوزها
أعتقد، دون ريب، أن سبب أسباب تدهور قيمة الجنيه، يكمن فى أننا نستهلك أكثر مما ننتج ونستورد أكثر مما نصدر، جراء ضعف الإنتاج والصادرات، ومن المؤسف، حقا، أن تُهْدَر فرص تنمية المنتجات والصادرات بدءا من تشغيل طاقات المصانع العاطلة، ورفع انتاجية الأرض المزروعة. ورغم إنجازات، لا تنكر، فى مواجهة نقص الطاقة الكهربائية مع التوجه الاستراتيجى الحكيم لإقامة محطات للطاقة النووية، وباستثمار عبقرية موقع مصر بتنفيذ مشروع قناة السويس مع التوسع المهم فى شبكة الطرق البرية، فإنها تبقى مشروعات للبنية أساسية لن تثمر عائدها المنشود بغير استثمار إنتاجى، وخاصة فى التصنيع.
وسوف تتآكل احتياطيات النقد الأجنبى طالما استمر الاستيراد غير الضرورى، على حساب الواردات اللازمة لاستمرار الانتاج والتوسع الانتاجى، خاصة مع تراجع دخل السياحة وتناقص تحويلات العمالة وتوقف معونات الخليج وتدنى الاستثمار الأجنبى. وأما العائد المرجو من مشروع قناة السويس فانه مشروط بمعاودة التجارة الدولية نموها؛ ويرتبط تعظيمه بتنفيذ وتشغيل مشروعات تنمية وتصنيع محورها، وعائد حقل الغاز الطبيعى الكبير المكتشف مشروط باقامة البنية التحتية لاستخراجه ونقله. ويبقى الأهم فى أصول الأزمة الاقتصادية أن من يستحوذون على ثروة الأمة المتاحة للاستثمار لا يسعون للتصنيع؛ ولن يسعوا طالما أن ربحيته النسبية أدنى مقارنة بمكاسب الاستيراد المنفلت والمضاربة العقارية. ومن المؤسف أن الحكومات المتعاقبة لا تدرك حتمية التصنيع، حتى إن هيئة التصنيع سميت هيئة التنمية الصناعية، فى دلالة رمزية غير خافية لتقديس السوق الحرة، حتى بعد أن سقطت فى معقلها الأمريكى.
وعود على بدء، الى ما ذكرته أعلاه عن ضرورة البدء بتشغيل المصانع المتوقفة وتعظيم إنتاجية الأرض المزروعة، أُذَكِر بأن معظم النمو يتحقق فى العالم بمضاعفة إنتاجية وعائد الاستثمار القائم قبل أن يتحقق باستثمار جديد. وبالمناسبة فقد كان الإخفاق أحد أهم مقدمات انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، كما أعلن الزعيم السوفيتى يورى أندروبوف، الذى فجر ثورة الجلاسنوست (المصارحة أو المكاشفة)، وهو قائد المخابرات السوفيتية؛ الذى تولى منصب سكرتير عام الحزب الشيوعى السوفيتى، وهو ما فصلته فى دراسات منشورة، قبل وبعد ذلك الانهيار. وأما ارتقاء الإنتاجية فانه لم ولا ولن يتحقق بغير استيعاب أن التصنيع هو رافعة تغيير هيكل الاقتصاد والصناعة جذريا لصالح القطاعات الانتاجية والفروع الصناعية الأعلى إنتاجية والأرقى تقنية، كما برهنت خبرة العالم من حولنا طوال التاريخ الحديث.
ومع صعود الدعوة مجددا للاقتصاد الحر بمصر، سجلت أن الأزمة الاقتصادية العالمية كانت حصاد الجشع المنفلت والفساد المنظم فى أمريكا، وأن الثورة الشعبية المصرية كانت حصاد ذات الجشع والفساد. وقد أشهرت- الأزمة فى أمريكا كما الثورة فى مصر- إفلاس السوق الحرة؛ المعادية لتدخل الدولة فى الاقتصاد لضمان كفاءة تخصيص الموارد وحماية عدالة توزيع الدخل. وانفضحت مجددا خديعة أن السوق الحرة قادرة على تصحيح إخفاقاتها، حين سقطت نظرية التنقيط الزاعمة بأن تعظيم ثروات الأغنياء سيفيد الفقراء حين تتساقط عليهم ثمار النمو!! وثبتت صحة توقع اقتصاديين، لم يرضخوا لهيمنة المبشرين الجدد بنظرية اليد الخفية، التى تزعم أن المصلحة الأنانية مصدر الخير العام!! فكشفوا أن نمو الاقتصاد الريعى تحقق بفضل فقاعات نمو وهمى، ونصب على الأمريكيين كما المصريين وغيرهم!! وكانت العاقبة الوخيمة على من أغرتهم جزرة وعد أو أرهبتها عصا وعيد المحافظين الجدد.
وقد انطلقت فى دعوتى لنظام اقتصادى اجتماعى جديد، قبل وبعد الثورة المصرية، من حقائق: أن اخفاقات السوق الحرة أملت تدخل الدولة, وأن إخفاقات اقتصاد الأوامر فرضت التسليم بدور السوق، وأن النظم الأصولية سقطت حين ارتكزت لرؤية أيديولوجية جامدة، وزعمت أنها نهاية التاريخ، سواء نظرية الاقتصاد الحر وفق وصفة آدم سميث، أو نظرية اقتصاد الأوامر وفق وصفة كارل ماركس! وسجلت أن دعوة ريجان للعقيدة النقية للرأسمالية باستدعاء أشباح سميث والسوق الحرة، تزامنت مع دعوة أندروبوف للعقيدة النقية للشيوعية؛ باستدعاء أشباح ماركس والمركزية البيروقراطية! وأن إخفاق جورباتشوف فى إنقاذ الاشتراكية البيروقراطية سوفيتية الطراز، لحقه إخفاق بوش فى إنقاذ الرأسمالية الحرة أمريكية الطراز، وأن نبذ نظام اقتصاد الأوامر، الذى أقامته الثورة الاشتراكية الروسية لتطيح بدور السوق! لحقه نبذ نظام الاقتصاد الحر، الذى بعثته مدرسة شيكاجو لتطيح بدور الدولة!
وبالتعلم من خبرة سقوط الأصولية الاشتراكية والرأسمالية فى العالم، أكرر: أن مصر لن تشهد استقرارا وتقدما اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، ولن تحقق الأمن الاقتصادى القومى والانسانى، بغير إقامة نظامٍ اقتصادى اجتماعى جديد؛ يجسد معيارى المفاضلة بين النظم، وهما: التخصيص الرشيد للموارد وعدالة توزيع الدخل. أقصد إقامة نظامٍ يجمع بين: أدوار الدولة والسوق، وقطاعى الأعمال العام والخاص، والتخطيط الوطنى والمبادرة الفردية، والسيادة الوطنية والانفتاح الاقتصادى، ويردع الفساد ويكبح الجشع، ويُفَعِّل المسئولية المجتمعية والتنموية والوطنية للرأسمالية. وأقصد تنمية شاملة تُعظِّم الإنتاجية والتنافسية بالتنمية الإنسانية الهادفة الى تنمية مهارات وقدرات قوة العمل وخاصة عبر الارتقاء بجودة التعليم والتدريب، وترتقى بتصنيع مصر مع استيعاب منجزات اقتصاد المعرفة والاستجابة لتحديات العولمة؛ وتبنى مرتكزات الاندماج المتكافئ فى المصنع والاقتصاد العالمى، وتحقق التنمية المستدامة والمعتمدة على القدرات الوطنية بالأساس.
وفى سياق ما سبق، ينبغى أن ينطلق حفز دور القطاع الخاص من حقيقة أنه يسعى, وينبغى أن يسعى, لتحقيق أقصى ربح ممكن, لأن هذا ما يميز مشروع الأعمال عن العمل الخيرى, ويوفر الحافز للمستثمِر المبادِر والمنظِم والمخاطِر والمبتكِر, ليُسهم فى التنمية والتصنيع. لكن هدف الربح الخاص, وهو منطقى وتاريخى ومشروع, لا يتعارض مع وجوب إلزام رجل الأعمال بتحقيق ربحية المجتمع، وخاصة بتصفية الفقر. وقد دفع المصريون ثمن إنقاذ مصرهم، دولةً ووطنًا وأمةً وهوية، من نير الفاشية التكفيرية والفوضى الهدامة، ويستحقون عائد إقامة نظامٍ اقتصادى واجتماعى جديد أوجزت مرتكزاته، تصنيع يستحق استكشاف سبيله تناولا لاحقا.
(المصدر: الاهرام 2015-10-25)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews