قراءة في الحالة الاقتصادية التركية
فاز حزب العدالة والتنمية أخيرا بالانتخابات التركية، التي شهدت مشاركة جماهيرية غير مسبوقة الكثافة، وحقق أغلبية مريحة تؤهله لتشكيل حكومة بمفرده. وجاء هذا الفوز تعبيرا عن رغبة الشعب التركي في استدامة الاستقرار السياسي والأمني ومواصلة النمو الاقتصادي. ففوز حزب واحد صاحب تجربة تاريخية ناجحة يعني تشكيل حكومة قوية قادرة على المحافظة على الاستقرار ومواصلة التنمية وتحسين الظروف المعيشية لجميع السكان. وقادت الانتخابات الماضية غير المحسومة إلى إضعاف قدرة الحكومة خلال الأشهر الماضية على تبني السياسات الداعمة للنمو والمحافظة على الأمن والاستقرار. وصوت الناخب التركي للحزب الحاكم بسبب النجاحات الاقتصادية التي حققتها تركيا خلال سنوات حكمه الماضية. ويذكر البنك الدولي أن تركيا غدت من أكبر الدول متوسطة الدخل اقتصاديا، حيث بلغ ناتجها القومي المقيم بأسعار الصرف نحو 824 مليار دولار. من جهة أخرى وصل ناتجها المحلي مقيما بأسعار القوة الشرائية المعادلة إلى نحو 1.6 تريليون دولار في 2014م. وتعتبر تركيا أكبر قوة اقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، وتأتي في المرتبة 17 عالمياً في حجم اقتصادها. وقد تضاعف متوسط دخل الفرد التركي بنحو ثلاث مرات خلال عقد من الزمان ووصل إلى نحو 10840 دولارا أمريكيا مقيماً بمعدلات الصرف في 2014، بينما بلغ نحو ضعف هذا المبلغ إذا قيم بالقوة الشرائية المعادلة.
ورفع من شعبية الحزب نجاحه في توزيع النمو الاقتصادي بشكل عادل على المجتمع التركي، حيث ارتفعت دخول شريحة 40 في المائة الأقل دخلا بنفس معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي تقريبا. وتكتسب عدالة توزيع مكاسب النمو أهمية كبيرة، لأن ذهاب معظم عوائد النمو للشرائح السكانية الأعلى دخلا قد يثير قلاقل اجتماعية ويخفض شعبية الحكام. وإضافة إلى ذلك انخفضت شريحة الفقراء المدقعين في تركيا خلال العقد الماضي من نحو 13 في المائة إلى 2.3 في المائة من إجمالي السكان. كما ارتفع معدل العمر المتوقع عند الولادة بنحو خمس سنوات منذ بداية الألفية ليصل إلى 75 سنة حاليا. ونجحت الدولة في تحسين وإيصال الخدمات التعليمية والصحية والبلدية خصوصا للشرائح السكانية الأقل دخلا. وتمكن الاقتصاد التركي من توليد أكثر من 6.3 مليون فرصة عمل إضافية منذ الأزمة المالية العالمية. وعلى الرغم من زيادة مشاركة النساء في سوق العمل فقد استقرت معدلات البطالة الكلية بسبب قدرة الاقتصاد على توليد الوظائف.
وتثبت التجربة التركية وإنجازاتها والتوقعات المستقبلية حولها إمكانية تحقيق الدول الصاعدة معدلات نمو جيدة وتحسين أوضاع شعوبها المعيشية إذا تبنت إصلاحات مناسبة. وجاء النجاح الاقتصادي التركي نتيجة للإصلاحات الاقتصادية والإدارية التي أجرتها الحكومة خلال السنوات الماضية، خصوصا في خفض معدلات التضخم التاريخية العالية، وتحسين أداء الحكومة، وتجنب الأزمات مع الجيران، والاستقرار السياسي، ومحاربة الفساد. وكانت البلاد تعاني معدلات تضخم مرتفعة لسنوات طويلة. وللتصدي لمعضلة التضخم تبنت تركيا سياسة صرف مرنة، ومنحت مزيدا من الاستقلالية للبنك المركزي الذي طبق سياسة استهداف التضخم. كما عملت الحكومة منذ بداية الألفية على ضبط النفقات والإيرادات العامة، ما مكنها من خفض العجز المالي. ونجحت الحكومة في خفض نسب الدين العام من خلال برامج الرشادة المالية، حيث تراجعت نسبة الدين للناتج المحلي من 67.7 في المائة في عام 2003 إلى 33.5 في المائة في عام 2014م. وقامت الحكومة أيضا بحملة إصلاحات في مجالات الاستثمار وسوق العمل والبيئة. كما ركزت الدولة على خفض الفقر وعدالة توزيع الدخل بين الشرائح الاجتماعية، وذلك من خلال تحسين الخدمات التعليمية والصحية والحماية الاجتماعية. وتم تعزيز دور القطاع الخاص وتبني برامج خصخصة واسعة، كما نفذت إصلاحات إدارية كإنشاء هيئات مستقلة للرقابة المصرفية والاتصالات. وتم التركيز أيضاً على محاربة الفساد، وتحويل اهتمامات القطاع الخاص من الاعتماد على الدخل الريعي، إلى زيادة الدخل من خلال الإنتاج. وسعت الدولة إلى تحسين كفاءة القطاعات الاقتصادية من خلال رفع مستويات المساءلة ووضع معايير عالمية لعديد من القطاعات بما في ذلك القطاعات المصرفية، والاتصالات، والطاقة. وإضافة إلى ذلك تم تنفيذ مشاريع كبيرة في مجال البنية الأساسية، والاستمرار في التوسع في تنفيذ هذه المشاريع. وقد تمكنت تركيا من تحقيق هذه الإنجازات بسبب الزعامة النزيهة القوية، والرؤية السليمة، والكفاءات القيادية التي أدارت المؤسسات الرئيسية في البلاد. وساعدت تركيا بعض العوامل الخارجية كسعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والتكامل معه. كما استفادت من النمو الاقتصادي العالمي القوي في بداية الألفية وزيادة الطلب على صادراتها، وتوفر التمويل الدولي، وتدفق الاستثمارات التي جذبتها الإصلاحات. وقد ارتفعت صادرات تركيا من السلع والخدمات بأكثر من خمسة أضعاف منذ بداية الألفية، وحظيت دول الاتحاد الأوروبي بنسبة كبيرة منها. وارتفع مستوى تعقيد هذه الصادرات وزاد تقدمها كما ازدادت قدرات تركيا في الحصول على التمويل. وتثبت التجربة التركية أن أهم ما تهتم به شعوب العالم هو تحسن أوضاعها المعيشية وتمتعها بالاستقرار الأمني والسياسي. وقد جاء فوز حزب العدالة والتنمية وارتفاع شعبيته بسبب اقتناع الأتراك بقدرة الحزب التاريخية على إدارة الاقتصاد بكفاءة، ولهذا منحه الأغلبية اللازمة لتمكينه من تحقيق الاستقرار ومواصلة التنمية.
(المصدر: الاقتصادية 2015-11-08)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews