لم يعد لدى اسرائيل لمواجهة ثورة الفلسطينيين ضد الاحتلال سوى الاتجار بجثث شهدائهم متجاوزة كل اعتبار اخلاقي
بضاعة باردة مخزنة في غرف التبريد لشرطة اسرائيل وتنتظر أمر البيع. المشترون بالذات موجودون، ولكن البائعين مفزوعون. فهم لن يسلموا البضاعة الا من تحت الطاولة، وفقط شرط ألا تحدث البضاعة احتفالات. فواضح ان البضاعة – جثامين منفذي العمليات الفلسطينيين، تتطلب جنازة، وفي الجنازة هناك مشاركون مشحونون بمشاعر عاصفة تنفجر ضد من “حيد” منفذي العمليات وضد دولة اسرائيل، الانفجار الذي يحدث موجات غضب وكراهية اضافية، وكل هذه من شأنها أن تمس بنسيج العلاقات الهادىء والساكن، الذي لولا الجثث لكان واصل الوجود بلا عراقيل.
فكيف يمكن على الاطلاق الاعتراض على هذه المبررات. حكومة اسرائيل، التي جعلت التحريض السبب الوحيد للثورة الفلسطينية وعمليات الافراد، ملزمة بان تتمسك بموقفها المشوه. فليس للتحريض اي خلفية او علاقة تاريخية. وهو لا يستند الى “حقيقة” أو الى “حقائق”. هو ضربة طبيعية. بالضبط مثلما لا يوجد لمنفذي العمليات من الفلسطينيين قبل أن يصبحوا جثامين تفسير منطقي. هكذا مجرد هكذا، نهض الفلسطينيون ذات يوم، وخلافا لكل التوقعات وكل التقديرات، بدأوا يقتلون اليهود.
هم أفراد، ليسوا اعضاء في تنظيم بشكل عام، وهم لا يعلنون مسبقا اين ومتى سيهاجمون. لا ينطبق عليهم اي نموذج ولا يناسب أفعالهم اي وصف: انتفاضة الافراد، انتفاضة الاجواء، انتفاضة السكاكين، كيف بالضبط سنسمي هذه العربدة، إذ بدون تعريفات لا يمكن اعداد خطط عمل أو وصف الواقع. من حظنا أن الالة لم تخيب أملنا هذه المرة ايضا. فمرة اخرى امتشق التحريض كتفسير لكل ظاهرة. هو الذي يحرك المخربين، هو الذي يمنع المفاوضات السياسية، هو الذي يلغي وجود الشريك، بصفته المحرض الرئيس، وبالاساس – يمكن للتحريض ان يخفي تحت اكنافه وجود الاحتلال، ويعطل ذنبه. فليس الاحتلال هو المذنب بل المذنب هو التحريض عليه.
الى هذا استند المنطق الحديدي الاعوج الذي يعرف كيف يعثر بدقة موضعية على مراكز التحريض. ذات مرة، قبل وقت طويل من الانتفاضة الاولى، كانت هذه اعلام فلسطين، او الشعارات التي رشت على حيطان المباني. في حينه ايضا رأى الحكم العسكري في هذه المظاهر الخطيرة تهديدا استراتيجيا. واجبر الاولاد على تسلق عواميد الكهرباء كي ينزلوا الاعلام، واخرج الشيوخ من منازلهم في ظلمة الليل كي يمحوا الشعارات. هذا التحريض انتهى. اما الاحتلال فاستمر كالمعتاد. الى أن جاءت الانتفاضة الثانية التي استندت بالطبع الى التحريض فقط، ولم تكن ثورة ضد الاحتلال.
اما الان فهذه هي الشبكات الاجتماعية المذنبة في كل شيء. لو كان فقط ممكنا منع خدمات الانترنت وتصفية الشبكات الخلوية، لو كان فقط ممكنا منع ابو مازن من أن يتحدث عن الاحتلال وعن المستوطنات، لما كان السكان فكروا أو شعروا على الاطلاق بان وضعهم سيء. لحظنا، تملك اسرائيل الان السلاح المطلق: جثامين باردة ومهددة. جثامين محظور تحريرها لان ببرودتها قد تشتعل نار تحرق كل المناطق. فالفلسطينيون يتفهمون قتل منفذي العمليات. فموت الشهداء هو جزء من ثقافتهم. ولكن الجثامين؟ هذه قصة اخرى. يمكن هنا الضغط عليهم.
ان هذا الذخر الامني المحتجز في الثلاجة يلقي بظلاله بالطبع على كل اعتبار اخلاقي؛ وكالمعتاد، كما يرافق كل فعل غير اخلاقي تعليل امني لا يمكن الصمود امامه. إذ حيال حماس وحزب الله يجب العمل بادواتهم. تجار الجثث، كما ينبغي ان نشرح للمحرضين، ملزمون بان يتمسكوا بقواعد لعب عادلة. الجثة مقابل الجثة، او الجثة مقابل الهدوء، الاغلى فيما بينهما. هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الفلسطينيون. وهذه هي اللغة التي تتقنها اسرائيل بجهلها.
هآرتس 5/11/2015
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews