المؤشرات لا تروي القصة الاقتصادية كاملة

المؤشرات الاقتصادية التي تُحيط بنا مألوفة، كذلك هي الانتقادات التي تجذبها. مؤشر الأسعار الاستهلاكية لا يلتقط بالكامل نعمة المُنتجات الجديدة، وأرقام البطالة لا تحسب العاملين الذين تخلّوا عن البحث عن وظيفة نتيجة يأسهم من ذلك، والناتج المحلي الإجمالي يُدرج أشياء سيئة إذا كان لها سعر في السوق ويستثني الأشياء الجيدة إذا لم يكُن لها سعر في السوق.

لكن هناك عيبا واحدا أساسيا في جميع هذه الإحصائيات نادراً ما يُناقش: أنها في الغالب دائماً ما يتم تطبيقها على البلدان. ليس من المستحيل أن تجد تخمينات بارعة عن الناتج المحلي الإجمالي لمدينة كامبريدج، أو معدل التضخم في مومباي، وليس هناك ما هو مُثير للقلق من الناحية النظرية حول حساب أي منهما. مع ذلك معظم الإحصائيات الاقتصادية تتحدث عن الدولة.

هذا أمر غريب، لأن الدولة القومية وحدة سياسية وليست اقتصادية. بطبيعة الحال، السياسة تؤثّر بالتأكيد في الاقتصاد - والسلطات في البلدان بإمكانها فرض سعر فائدة مشترك، ومعدلات ضريبية وقوانين تنظيمية مشتركة. لكن كما تجادل المُفكّرة غير التقليدية والكاتبة جين جيكوبس تُجادل، الوحدة الطبيعية للتحليل الاقتصادي الكلي ليست الدولة القومية على الإطلاق. إنها المدينة والمنطقة المُحيطة بها.

أبردين، وكارديف، ومانشستر تخضع لبعض أوجه الشبه بحُكم مشاركتها في شيء نُسمّيه "الاقتصاد البريطاني"، لكن من الناحية الاقتصادية هي مختلفة تماماً. ثرواتها النسبية مُتقلّبة لأنها تتعرّض لقوى دفع وسحب مختلفة.

في كتابها "المُدن وثروة الأمم"، تُركّز جيكوبس بدرجة أكبر على تفاصيل أكثر حتى من ذلك، من خلال البحث في "شينوهاتا"، وهو اسم مستعار لقرية يابانية صغيرة. شينوهاتا كانت في البداية اقتصادا يعتمد على نفسه، يُكمّله البحث عن المؤن في الغابة والقليل من إنتاج الحرير. في القرن العشرين ازدهر القرويون قليلاً بفضل تحسين الأساليب الزراعية، التي استخدموها لإنتاج مزيد من شرانق الحرير. بعد الحرب وسعت طوكيو سحب قرية شينوهاتا إلى مدارها الاقتصادي. العاصمة اليابانية المُزدهرة أصبحت سوقاً للفاكهة الطازجة وفطر البلوط البري الذي يتم إنتاجه في شينوهاتا؛ وحكومة طوكيو دفعت مقابل إنشاء الجسور والطرق؛ وسوق العمل في العاصمة جذبت الشباب والشابات من القرية. الحكاية مُعقدة وغير متوقّعة. المعجزة الاقتصادية في اليابان، كما هو مُسجّل في الإحصائيات الوطنية، كانت في الواقع مجموع عدد لا يُحصى من القصص غير المُسجّلة عن التنمية المحلية.

جيكوبس ليست الوحيدة التي تقول إنه قد يكون من المفيد دراسة التنمية الاقتصادية من خلال عدسة مُكبّرة. ورقة بحث جديدة أعدها ثلاثة مختصين في التنمية الاقتصادية، وليام إيسرلي ولورا فريشي وستيفن بينينجز، تُقدّم قصة "تاريخ طويل لكتلة قصيرة" - قصة على غرار قرية شينوهاتا، خاصة بالتنمية الاقتصادية لمقطع بمساحة 486 قدما من شارع جرين في وسط مدينة مانهاتن.

إيسترلي معروف في أوساط العاملين في مجال التنمية بسبب شكوكه حول إلى أي مدى يُمكن تخطيط التنمية، ومقدار ما يستحقه القادة السياسيون ومستشاروهم المختصون من الثناء عندما تسير الأمور على ما يُرام.

يقول إيسترلي "ها هنا مقطع حيث لا يوجد زعيم؛ ليس هناك أي رئيس جمهورية، أو رئيس وزراء لهذا المقطع". ويُشير إلى أن شارع جرين يُقدّم لنا فكرة عن ميّزات اللامركزية الأكثر عفوية للتنمية الاقتصادية.

تاريخ شارع جرين بالتأكيد يعطينا كثيرا من التغيرات السريعة والمفاجئة لنراقبها. الهولنديون الذين استعمروا مدينة مانهاتن في عام 1624، قرّروا في عام 1667 التنازل عن ما هو الآن نيويورك إلى البريطانيين، مقابل الحصول على ما هو الآن سورينام في أمريكا اللاتينية. اعتقد الهولنديون أن سورينام الغنية بالسكر كانت رهاناً أفضل، لكن اقتصاد مدينة نيويورك الآن أكبر من اقتصاد سورينام أكثر من مائة مرة.

في عام 1850 شارع جرين كان حيا سكنيا مُزدهرا. تم افتتاح فندقين كبيرين ومسرح في مكان قريب. وبحلول عام 1870 هربت الطبقة المتوسطة وكان المقطع في قلب واحدة من أكبر مناطق الرذيلة في مدينة نيويورك.

في أواخر القرن التاسع عشر، ربما لأن قيمة العقارات في المنطقة كانت منخفضة، تحرّك أصحاب المشاريع بسرعة لبناء متاجر ومستودعات كبيرة من الحديد المطاوع لتجارة الملابس. لكن ثروات شارع جرين تضاءلت عندما انتقلت الصناعة إلى الجزء الأعلى من المدينة بعد عام 1910، وانخفضت قيمة العقارات. في الأربعينيات والخمسينيات اقترح مُخططو المدن جرف الأرض والبدء من جديد، لكن حملة المجتمع - التي على نحو معروف ضمت جيكوبس نفسها - أجبرتهم على الفرار. ثم انتعشت قيمة العقارات عندما استعمر الفنانون شارع جرين في الخمسينيات والستينيات، الذين جذبتهم المساحات الكبيرة المُشرقة والرخيصة. لم يكن من الممكن توقع أي من هذه التغيرات بسهولة، وبعضها غامض إلى حد ما حتى عندما ننظر إليها في وقت لاحق.

ما الدروس من شارع جرين؟ فهم البنية التحية الأساسية بشكل صحيح فكرة جيدة. التخطيط النشط، وهدم تجمّعات سكنية بالكامل استجابة لضعف مؤقت، ربما ليس كذلك. التنبؤ بعملية التنمية الاقتصادية على مستوى محلي هو لعبة الفاشلين. الأهم من ذلك هو، حتى النجاح التنموي الهائل - الولايات المتحدة، وداخلها، مدينة نيويورك - سيُظهر بعض التجاعيد العميقة بالنسبة إلى أولئك الذين يتوغّلون بعُمق.

(المصدر: فايننشال تايمز 2015-10-07)