الإنتاج أولا .. أم التسويق؟
كان يمكن لكلمتى هذه أن تعنون على النحو التالي: فى مأساة المسألة الحكومية، لكنى أفضل أن استهلها بمقطع من قصيدة كتبها الشاعر الألمانى الكبير
«جونتر أيش» فى عام 1967، ماإن قرأتها حتى وجدت نفسى اترجمها توا إلى العربية، ولعل الفقرة التالية منها تطابق وضعنا الحكومى المأساوى منذ الانتفاضة الثورية المجيدة للشعب المصرى فى يناير 2011، وحتى الآن.. يقول ذلك المقطع الذى انهى به الشاعر قصيدته: نحن بحاجة لآلة عزف ـ اوتارها مهمومة بالوطن/ لأجل خمسة مقاعد فى مخبأ للحكومة/ يتاخم الحقيقة.
والحقيقة المرة أن جميع حكوماتنا التى اعقبت يناير 2011، تمضى بسياستها الاقتصادية فى نفس الاتجاه الذى ثار عليه الشعب المصري، وذلك ابتداء بحكومة شرف، فالجنزوري، وانتهاء بحكومة محلب، فالمطلب الأول للشعب الثائر هو «العيش»، لكن جميع الحكومات التى جاءت بعد 25 يناير، كانت تسعى جاهدة فى الابتعاد بمسلكها عن هذه الكلمة، وإن تشدقت بها، مستبدلة اياها فى أدائها الفعلى بكلمة.
سوق «بتشديد الواو».. فجميع تلك الحكومات مافتئت تهتم بشيء واحد هو التسويق والتجارة، وأما الإنتاج فتركته لمن يدعون، «رجال الأعمال» الذين لاهم لهم سوى خصخصة المنافع وتعميم الخسائر، فهذا هو منطق الاستثمار الرأسمالى فى المرحلة الحالية من تاريخ البشرية، ليس فى مصر وحدها، وإنما على نطاق العالم الغربى بأجمعه على الرغم من كل المحاولات اليائسة لفرملته، إلا أنه فى زحف مستمر على حساب الشعوب وحقوقها، والسؤال هنا: إذا كانت هناك أزمة مستفحلة فى عقر دار الغرب الذى أتى بذلك النمط الاقتصادي، الذى انحدر خاصة فى المرحلة الحالية من تاريخه لإفقار مستمر لشعوبه، فلم نمضى إذن فى الاتجاه نفسه؟ خاصة وأنه أدى إلى احباط منقطع النظير للشعب المصرى وصل إلى الثورة عليه.
للإجابة عن هذا السؤال يلزم تبسيط أسس الاقتصاد السياسي: فى العصور السابقة على العصر الحديث كان الإنتاج هو السائد فى العلاقات الاجتماعية فى الداخل، ومن ثم فى العلاقات الدولية، وهو ما كانت تفصح عنه القصص الشعبية القائلة إن الاستهلاك دون مشاركة فعالة فى الإنتاج غير ممكن ولامقبول اجتماعيا.
أما فى الصورة الحديثة، فقد صارت دائرة السوق، هى السائدة، ودائرة الإنتاج محدودة للغاية، وصار القائم بالتسويق لما ينتجه الآخرون يحصل على اضعاف اضعاف مايحصلون عليه مع إنه لم يكن منتجا وإنما مروجا لما انتجه الآخرون.. وقد أدى ذلك الخلل فى العلاقة بين الإنتاج والاستحواذ عليه لما صرنا نراه من أزمات مستفحلة فى الاقتصاد العالمي، افضت لحروب افنت شعوبا مسالمة اقربها الحرب على العراق، وعلى الشام، ومن قبلهما الحربان العالميتان الأولي، والثانية، اللتان قضى فيهما الملايين جوعا وعوزا، وإن من لم يقضوا بلظى القنابل المنهارة على رءوسهم وهم فى دورهم مسالمين.
من هنا حل المثل القبيح القائل: اللى فى جيبه قرش يساوى قرش، محل قصص أجدادنا التى كانت تنص على أن من لاينتج لايحصد، ولا حق له فى ان يستهلك ما انتجه الآخرون المجدون.
أرجو ألا يفهم من هذا الكلام حنين، مستحيل للماضى البعيد، وإنما توضيح لما آلت إليه البشرية من تناقض رئيسى فى العصر الحديث.
والآن نتأمل وضع حكوماتنا السنية منذ انتفاضة يناير الثورية، كلها، وبلا استثناء، وحتى الحكومة الحالية الجديدة، تقوم على عكس ما تعلن عنه، اشباع حاجات الشعب المصري، وفى ومقدمتها حقه الطبيعى فى العيش الكريم الذى جأر بطلبه عندما رفض نظام مبارك، وما كان نظام مبارك سوى امتداد للانفتاح الاقتصاد الساداتى الذى ولغ فيه منذ عام 1974، والذى كانت ترجمته السياسية 99% من الحل فى يد أمريكا «بوصفها قائدة الاقتصاد الغربي».
لم يفعل مبارك سوى أنه، ابدع، فيما ولغ فيه سلفه، وحين اتى الإخوان للحكم لم يفعلوا سوى أن مضوا على النهج الاقتصادى نفسه، لذلك ثار عليهم الشعب من جديد من 30 يونيو لكننا مازلنا، ولشديد الأسف، ماضين على ذلك النهج، وكأننا لم نتعلم شيئا على الاطلاق. فبدلا من أن نعتمد فى المقام الأول على قوانا الإنتاجية المعطلة فى الداخل، والملقاة بالملايين على المقاهى أو فى أليم البحار، بينما انفقنا عليها، فلذات أكبادنا، دم قلوبنا ليصبحوا قادرين على العطاء، بدلا من ان نوظف هذه الثروة الإنتاجية الكبرى فى مشروعات قومية عامة للبنية التحتية بدءا بأصغر قرية فى الصعيد لأقصى الدلتا وسيناء والصحراء الغربية، وبدلا من أن تقوم حكومة وطنية بإدارة تلك المشروعات لمصلحة الشعب المصري، مازلنا نلجأ إلى «رجال الأعمال»، البارعين فى خصخصة المنافع وتعميم الخسائر على سائر الشعب، أليس هذا فى حد ذاته تشجيعا على الفساد، بل هو اس الفساد نفسه؟
لكن شبابنا حين ثار على فساد وقهر مبارك لم تكن لديه الأدوات التى تسمح له بـ «إخراج» ما يتمناه إلى النور. ومرجع ذلك شدة ضعف نظامنا التعليمى و«الإعلامى» بوجه عام فى فهم الأسباب الموضوعية التى أدت لإحباط الجماهير، ومن ثم لثورتها حتى ان حازم الببلاوى المؤمن تماما بحرية السوق على حساب قيم الإنتاج، حين نزل ميدان التحرير بعد الثورة أمكنه أن يقنع الشباب بمقولاته المحض تسويقية على الرغم من تناقضها الناجز مع أصول المشكلة الاجتماعية التى أدت للثورة.. ومازلنا حتى الآن فى تلك الدوامة لشديد الأسف، لم نخرج منها ، وما زلنا نحترق بها.. لكن وإلى متى والى أين؟ نعول فى جميع سياساتنا على الخارج بتقلباته (السياحة نموذجا)، بينما ندير ظهورنا لثروتنا البشرية الإنتاجية فى الداخل وهى الراسخة التى يمكن البناء عليها بكل المعايير، ولدينا فى قواتنا المسلحة العظيمة أفضل مثال على ذلك.
(المصدر: الاهرام 2015-10-01)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews