تصنيع مصر فى الفكر الاقتصادى المصرى

لم يتحقق حلم الأستاذ عباس محمود العقاد فى مقاله «مصر بعد خمسين سنة» بأخبار اليوم, بأن مصر ستصبح خلال خمسين سنة فى عداد الأمم الصناعية الكبرى. وستحل لنا الصناعة مشكلة كنا نحسبها عصية على الحل، وهى مشكلة الازدياد المطرد فى عدد السكان مع وقوف الثروة الزراعية عند حد لا تتعداه. وستفيدنا الصناعة فى عقولنا وأخلاقنا ومقاييس حياتنا الاجتماعية ونظراتنا إلى قيم الحياة، وذلك ارتقاء فى الملكات والهمم وارتقاء فى تعدد جوانب الفكر والخلق؛ فتبرز مصر إلى مكان الصدارة، وتعلم الإنسانية شيئاً جديداً فى عالم جديد، كما علمتها بالأمس شيئا جديدا فى العالم القديم.

لكن حلم العقاد، لم يتحقق فى عام 1999، الذى سجل انقضاء الخمسين عاما، ومرور 25 عاما على إعلان سياسة الانفتاح الاقتصادى، والحصاد المرير لخضوع مصر لإملاءات أطراف توافق واشنطن، التى شنت لوأد تصنيع مصر عدوانا ثلاثيا، تحالف فيه صندوق النقد والبنك الدولى واليمين الأمريكى. وقد وجد هؤلاء ضالتهم فى اقتصاديين تتلمذوا على أيديهم، فآمنوا بآلهة السوق الحرة، وحاربوا كل دعوة الى سياسات اقتصادية وصناعية، يستحيل ارتقاء التصنيع بغيرها، ووجدوا آذانا صاغية فى دوائر الحكم، التى تمكنوا من اختراق عقلها وكسب قلبها، فكان تخلى الدولة عن دورها المحتوم للارتقاء بالتصنيع، فى مصر كما فى كل مكان. والأهم أن توافق واشنطن وجد سنده فى جماعات مصالح مصرية، حركها الجشع المنفلت ومكنها الفساد المنظم، فغلّبوا التربُح من الاستيراد المنفلت والمضاربة العقارية على المصلحة الوطنية المصرية فى التصنيع، الذى لا سبيل غيره لتعزيز الأمن القومى وتحقيق الأمن الإنسانى. كما وفى هذا السياق، جرى وأد ما حققه مشروع التصنيع من إنجازات فى عهد ثورة 23 يوليو، وهو ما تناولت مؤشراته فى مقالات سابقة، ويستحق التعلم من دروسه مقالات لاحقة.

وأكتفى هنا، بتناول موجز لتطور مواقف المفكرين الاقتصاديين المصريين من تصنيع مصر، وهو التطور الذى جاء انعكاسا للسياق، المصرى والعالمى، الذى أحاط بصيرورة عملية التصنيع فى مصر، وحدد مصيره. وأسجل أولا، أنه فى مصر شبه المستعمرة التى فرض عليها التخصص فى إنتاج القطن للتصدير، وتطورت بعض الصناعات التى حوصرت بالمنافسة الأجنبية والعقبات الداخلية، أصدر الدكتور جمال الدين سعيد، فى كتابه اقتصاديات مصر فى عام 1951. ومقدسا نظرية (الميزات النسبية) ومؤيدا نظرية (حرية التجارة)، وغيرها من النظريات التى راجت فى العصر الاستعمارى، ولا تزالان - انبرى يدعو الى استغلال وتوسيع ما تبقى ميزات نسبية بالتخصص فى انتاج القطن، الذى يتم إنتاجه الواسع بتكاليف منخفضة نسبيا، زاعما أن التوزيع الأمثل لمواردنا الإنتاجية لا يمكن أن يتحقق إلا فى ظل حرية التجارة!! وأما الصناعة التى يجب أن تتطور فى مصر.

فقد حددها بالصناعات الصغيرة والمتوسطة!! مروجا فرية أن مصر ليس بمقدورها أن تصبح دولة صناعية. فيزعم أن غالبية الصناعات المصرية قامت ونمت ليس بفضل كفايتها الإنتاجية أو بفضل ميزتها النسبية فى النفقات، وإنما بفضل الحواجز الجمركية. ويعلن أنه مادام لا توجد دلائل على تجاوز الصناعة المصرية عهد الطفولة، ولن تبلغ القدرة على مواجهة المنافسة الأجنبية، فإنه يجب أن تذهب إلى الأشباح وإلى غير رجعة!! ويطالب بأن نمنح فترة انتقال للصناعات القائمة حاليا لمدة يجب ألا تزيد بحال على خمس سنوات، لتحاول كل منها أن تقف على قدميها دون حماية، فإن أمكن لها ذلك كان خيراً، وإن هى لم تتمكن من الصمود فلتقضى نحبها!!

وثانيا، أنه عقب الاستقلال السياسى لمصر وفى سياق نضالها من أجل الاستقلال الاقتصادى، وجدت نظرية (القدرات النسبية) نفوذا لها فى الفكر الاقتصادى المصرى، وعلى أساسها جرى الدفاع عن استراتيجية التصنيع على أساس إحلال الواردات الاستهلاكية والخفيفة والغذائية. وهكذا، أعلن الدكتور عبد المنعم القيسونى، فى كلمة بمؤتمر مسائل التنمية الاقتصادية، المنعقد بالقاهرة من 9 ـ 18 يوليو 1962، أنه لو طبقنا هذه النظرية ـ وهى سليمة صحيحة ومنطقية ـ على الإنتاج فى عالمنا الحاضر، لوجدنا أن من مصلحة الدول المتقدمة أن تتخصص فى إنتاج السلع التى تحتاج إلى الاستثمار الضخم والخبرة الفنية النادرة، وتترك لنا إنتاج السلع التى لا تحتاج إلى كل هذه المقومات، مثل صناعة الغزل والنسيج، مؤكدا أن التنمية فى البلدان النامية تؤدى إلى انتعاش اقتصاديات الدول المتقدمة، إذ تخلق أسواقا أوسع لتصريف منتجاته، وفرصا أكبر لاستثمار مدخراتها واحتياطياتها العاطلة .

وثالثا، أنه انطلاقا من نقد إستراتيجية التصنيع على أساس إحلال الواردات التى استنفدت طاقاتها، ونقد استراتيجية التصنيع المتجه للتصدير التى أخذت تستجمع قواها، شق مفهوم جديد للتصنيع طريقا لنفسه فى الفكر الاقتصادى المصرى. وهكذا، كتب الدكتور عمرو محيي الدين، فى كتابه التنمية والتخطيط الاقتصادى، يقول: إن الزيادة فى متوسط دخل الفرد لا تعنى التنمية الاقتصادية، وأنها تصبح كذلك فى حال ارتباطها بتصفية الاختلالات الهيكلية للاقتصاد القومى، وبناء قوى النمو الذاتى المستمر فى هذا الاقتصاد، وتأمين المقومات لأن يصبح المجتمع متقدما تكنولوجيا. ويوضح أن تصفية الاختلالات الهيكلية يرتهن بإنجاز ثورة صناعية، وأن التصنيع حين يصبح محور عملية التنمية الاقتصادية يؤمن تنويع الهيكل الاقتصادى.

وأما إنجاز التصنيع، فإنه يتطلب السيطرة على الموارد الوطنية وقيام الدولة بدور قيادى فى هذه العملية، ويفترض نجاحه تحقيق الارتباط الأفقى والرأسى بين الصناعات وتطوير الزراعة وإقامة البنية الأساسية الإنتاجية، حتى يمكن للاقتصاد أن يقف على طريق النمو الذاتى، ويتغلب على ضيق السوق. ثم حذر فى دراسة أخرى من الوقوع فيما سماه مصيدة المرحلة الأولى للتصنيع، أى إحلال الواردات الاستهلاكية، وعدم التقدم صوب رفع كفاءتها التصديرية والانتقال إلى إحلال الواردات من السلع الوسيطة والثقيلة وخاصة صناعة بناء الآلات، وبناء القدرة على خلق وتطوير التكنولوجيا محلياً. وللحديث بقية.

(المصدر: الاهرام 2015-09-13)