فوكاياما ونهاية النموذج الصيني
هل للمنظر السياسي والاجتماعي أن يضحى استشرافيًا أيضًا في علوم الاقتصاد ومسارات الألم؟
حكمًا يصدق الأمر في حالة البروفسور الياباني الأصل الأميركي الجنسية فرانسيس فوكاياما، الرجل الذي بشر بـ«نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، في كتابه الصادر عام 1992، حين اعتبر أن القيم الديمقراطية الغربية والمنظومة الليبرالية الحديثة، هي نهاية التطلع البشري والوصول إلى مرحلة «مشتهى الأجيال»، معتبرًا أن الحكومات الشمولية والأنظمة الديكتاتورية، وقد ولت إلى غير رجعة، غير أن الأمر لم يتوقف عند هذه الحدود، بل تجاوزها إلى التنظير بشكل خاص لجهة الصين ومسارها التاريخي.
جرى ذلك في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2012 عبر تصريحات لوكالة أنباء الصحافة الفرنسية توقع فيها انهيار النظام الصيني الحالي، والبداية ولا شك ستكون مع انحلال المنظومة الاقتصادية التي باتت معجزة عالمية، وتفككها وتباطؤ نموها، كنذير ومؤشر أولي للأسوأ الذي لم يأت بعد.. لماذا نستدعي هذه القراءة الآن؟
بالقطع، الأمر يرتبط ارتباطًا جذريًا بما أطلقت عليه صحيفة الـ«تايمز» البريطانية «سقوط الصين»، وقد كانت الاهتزازات في الأسواق المالية الصينية وتخفيض عملة البلاد الرئيسية «اليوان»، عاملاً رئيسًيا في تبخر نحو عشرة تريليونات دولار من أسواق الأسهم في العالم منذ وصول الأمة لذروتها في يونيو (حزيران) الماضي.
تنظير فوكاياما لا يغيب عنه البعد السياسي، فهو دائمًا وأبدًا كان يسعى لأن يؤسس آيديولوجيا تكرس فكرة هيمنة الغرب الرأسمالي، وعليه فإنه «لا مكان بعد اليوم لأية آيديولوجية تريد أن تعارض الديمقراطية الليبرالية».
في هذا السياق، ذهب التلميذ النجيب لـ«آلان بلوم» والحفيد اللامع لـ«ليوشتراوس» أبو المحافظين الجدد، إلى أن انهيار النظام الصيني مرده فقدان قنوات الاتصال بين قمة الهرم السياسي والقاعدة الجماهيرية، فبسبب غياب حرية الإعلام وعدم إجراء انتخابات محلية، فإن من في قمة الهرم السياسي لا يعرفون شيئًا عما يدور في أوساط الشعب».
هل كانت رؤية فوكاياما جزءًا من الحرب النفسية الدائرة بين واشنطن وبكين ضمن الصراع الدائر على النفوذ القطبي العالمي؟
يمكن للمرء أن يعتبر ذلك كذلك بالفعل، غير أنه يلفت إلى شأن آخر، تصعب المجادلة بشأنه، وهو أن الصين رغم تجربتها الاقتصادية الرائدة في العقود الثلاثة المنصرمة، لا تزال تغيب عن سماواتها آليات المحاسبة، معرضة لما سماه مشكلة الإمبراطور السيئ.
ولعل المراقب المحقق والمدقق للتجربة الصينية يلحظ أنه في دولة يتجاوز سكانها المليار والثلاثمائة مليون نسمة يصعب إيجاد أدوات رقابية حزبية رادعة ومشددة لمواجهة الفساد المالي والإداري، وللتواصل مع مثل هذا «الفيضان البشري»، وفي دولة باتساع وجغرافية الصين.
هل على العالم أن يقلق، لا سيما إذا أثبتت أحداث المستقبل أن فوكاياما كان على حق؟
الشاهد في جميع الأحوال أن الصين قد باتت لاعبًا مركزيًا في حركة الاقتصاد العالمي، سواء من حيث النمو، أو التضخم والركود، وكذلك الأمر بالنسبة لحركة الأسهم ارتفاعًا وانخفاضًا، وعليه فإن هبوط الناتج الصناعي الصيني إلى أدنى مستوى له منذ ست سنوات، ومحاولة البنك المركزي الصيني في البلاد التدخل في البلاد قبل أسبوعين عبر تخفيض اليوان وإخفاقه في ذلك، خلقا حالة من الهلع والخسائر ذكرت دوائر المال والأعمال والاستثمار في العالم بالأزمة الاقتصادية في شرق آسيا في منتصف التسعينات، مع الفارق هذه المرة، إذ حلت الصين محل اليابان، وفي الوقت ذاته لم تعد واشنطن تمثل نفس القوة الاقتصادية والمالية التي كانت لها في ذلك الوقت، وإن ظلت قاطرة للاقتصاد العالمي، لكنها قاطرة أقل استحقاقًا للاعتماد عليها.
هل من رؤية أخرى تصب في نفس اتجاه فوكاياما؟
الذين قدر لهم قراءة أوراق البروفسور «ديفيد شامباو» الأكاديمي والباحث بجامعة جورج واشنطن، ورجل الشؤون الصينية الشهير، يخلصون إلى أن زلزالاً عنيفًا يضرب الصين، ويكاد أن يذهب بالاستقرار المالي للعالم.
بحسب الفلسفة الكونفوشيوسية فإن ما يزعج الصينيين ليس الفقر، بل التفاوت الطبقي وغياب العدالة الاجتماعية، وهذه كارثة تتحقق بامتياز في ظل الفساد وغياب المحاسبة التي يخبرنا عنها فوكاياما.
أما على الصعيد العالمي، فإن اختلال أحوال ومآلات الاقتصاد الصيني سوف تؤثر على مشروعات وشراكات مالية للصين مع قارات الأرض الست قدرها «شامباو» بنحو 1.14 تريليون دولار، ودعانا لأن نتذكر أن خطة مارشال الأميركية لإنقاذ أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية كلفت ما يعادل 103 مليارات دولار بسعر اليوم.
سقوط الصين العظيم اقتصاديًا دفعة واحدة، وتحقيق نبوءة فوكاياما بالمطلق، أمران قد لا يكونان قريبين زمنيًا وبشدة، لكن في كل الأحوال تبقى الشفافية الغائبة هناك مثار قلق شديد للاقتصاد العالم في الحال والاستقبال.. هل يحق لنا أن نتوقف قليلاً أمام القول بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن آسيا بامتياز أو قرن الصين بنوع خاص؟
(المصدر: الشرق الاوسط 2015-09-01)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews