هل أنت مع أم ضد خصخصة الخدمات الصحية؟ «2 من 2»

لعلي في هذا المقال أكمل الحديث حول الفئات الثلاث المتباينة الآراء حول خصخصة الخدمات الصحية، كما سأتطرق بصورة ضمنية إلى الحديث حول بعض الاستفسارات التي استقبلتها بعد مقال الأسبوع الفائت. ففي الجزء الأول من هذا المقال تحدثت حول الفئة الأولى ولعلي في هذا المقال أكمل الحديث حول الفئتين الثانية والثالثة.

الفئة الثانية نظرت إلى خصخصة الخدمات الصحية نظرة سوداوية بحتة. وكأن من مقتضيات خصخصة الخدمات الصحية أن يشارك المواطن بدفع جزء من التكلفة العلاجية. لذا تتميز هذه الفئة بأنها ضد مفهوم الخصخصة بغض النظر عن شكلها ونوعها. هذه الفئة فهمت الخصخصة بصورة أحادية يتولى فيها القطاع الصحي الخاص عبر التأمين الصحي الخاص تقديم الرعاية الصحية. لذا فهي تعارض أي نظرة إصلاحية للنظام الصحي. لذا فغالبا ما تردد هذه الفئة أن ما نحتاج إليه فقط الانتظار إلى حين الانتهاء من المشاريع الإنشائية القائمة لمستشفيات وزارة الصحة. هذه الفئة تعتقد أنه بمجرد الانتهاء من تنفيذ هذه المستشفيات ستنتهي معاناة نقص الأسرة الحاد في المستشفيات الحكومية بشكل عام. باختصار كل صور الخصخصة في نظر هذه الفئة مضرة ولا تصب في مصلحة المواطن أو الوطن.

مع الأسف أن هذه الفئة نظرت إلى الخصخصة من زاوية واحدة ونسيت أو تناست الدور الإيجابي للخصخصة في رفع كفاءة النظام الصحي وتقليل الهدر المالي وتحديد أولويات النظام الصحي. وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان "خصخصة الخدمات الصحية ضرورة أم ترف؟" أن تولي القطاع الصحي الخاص تقديم جزء من الخدمات الصحية أصبح واقعا حتى لدى الدول التي تتولى حكوماتها تقديم الرعاية الصحية بصورة مباشرة ولا يدفع المستفيد من الخدمة مبلغا ماليا عند تلقيه الرعاية الصحية كالنظام الصحي الإنجليزي. لذا لا يوجد نظام صحي متطور دون أن يكون للخصخصة دور فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة كما أن الخصخصة لا تقتصي أن يدفع المواطن جزءا من التكلفة العلاجية.

هذه الفئة تحتاج إلى أن تعي أن مشكلة الخصخصة لا تكمن في مشاركة القطاع الصحي الخاص في تقديم الرعاية الصحية وإنما في الكيفية التي يشارك بها القطاع الصحي الخاص في تقديم الرعاية الصحية.

الفئة الثالثة هي الفئة التي ترى أن الخصخصة لها جوانبها الإيجابية ولها مضارها. فهي تؤمن بأهمية شراكة القطاع الصحي الخاص من جهة، لكنها لا تؤمن بأن يتولى القطاع الخاص الخيط والمخيط. هذه الفئة تؤمن بأن الخصخصة قد تنجح بشروط وضوابط سبق أن تحدثت عن جزء منها في مقالي سابق الذكر. لذا فهذه الفئة تؤمن بالخصخصة الذكية، التي تسهم في رفع كفاءة النظام الصحي واستثمار موارده بصورة مثلى دون أن يتحمل المواطن تبعات مالية. فالشراكة مع القطاع الصحي الخاص مهمة جدا للمشاركة في رفع كفاءة النظام الصحي لكن الكيفية التي تتم بها هذه الشراكة أهم حتما.

هذه الفئة ضد توجه قيام وزارة الصحة بتقديم جميع الخدمات الصحية بكل صورها وأشكالها – كما هو واقعها الآن - وضد أن يتولى القطاع الصحي الخاص تقديم الرعاية الصحية بكل أشكالها وصورها لكنها تؤمن، ووفقا لواقع النظم الصحية الحديث، بأن القطاع الصحي الخاص أو غير الربحي له دور في مشاركة الحكومة في تقديم الرعاية الصحية بغض النظر عن نظامها الصحي سواء غلب عليه نظام التأمين الاجتماعي أو الوطني أو التجاري. فمثلا وزارة الصحة في المملكة المتحدة، التي يتميز نظامها بأنه نظام صحي وطني يقدم جزءا من الخدمات الصحية عن طريق القطاع الصحي الخاص على الرغم من كون القطاع الصحي الإنجليزي الحكومي من أكبر القطاعات من حيث عدد الموظفين على مستوى أوروبا. لكن هذه الحقيقة لا تقلل من دور القطاع الصحي الخاص في تقديم جزء كبير من الخدمات الصحية، التي أشرت إلى جوانب منها في مقالي سابق الذكر "خصخصة الخدمات الصحية ضرورة أم ترف؟"

ختاما: المشكلة التي وجدتها عند متابعتي بعض ما كتب حول خصخصة الخدمات الصحية، ليس في تأييدها إحدى الفئات السابقة الذكر أو ضدها لكن في كيفية التأييد أو المعارضة. بمعنى أنها في الأغلب تدور في فلك الانطباعات الشخصية أو القراءة الخاطئة للوقائع العلمية. فمثلا استشهد بعض الكتاب بأن الخصخصة نجحت في قطاع الاتصالات، ما يعزز فرص نجاحها في القطاع الصحي. هذه المقارنة مجحفة وخاطئة لأن القطاع الصحي يختلف عن القطاعات الأخرى، بل إن المنطلقات الاقتصادية للقطاع الصحي تختلف عن غيرها بدليل وجود ما يعرف باقتصاديات الصحة، التي تخبرنا أن إيجاد التنافسية بين القطاعات الصحية قد لا يسهم في رفع الجودة الصحية أو تقليل التكلفة العلاجية. فبيئة القطاع الصحي تختلف عن القطاعات الأخرى. بل إن الأدبيات العلمية تخبرنا أن التنافسية بين القطاعات الصحية قد تقود في بعض الحالات إلى ارتفاع التكلفة العلاجية. فالجهالة في معرفة المخرجات الصحية وقياسها تحد من الدور الإيجابي الذي تسهم به التنافسية عادة في رفع الجودة الصحية أو تقلل التكلفة العلاجية. كما أن الواقع الصحي للدول التي خصخصت الخدمات الصحية بهذه الصورة كالنظام الصحي الأمريكي قادته الخصخصة إلى ارتفاع التكلفة العلاجية بدلا من انخفاضها، ما حد من استخدام الخدمات الصحية للفئات الأكثر احتياجا وهم كبار السن والنساء والأطفال.

كما أن الحاجة والطلب لبعض الخدمات الصحية لا يعتمدان على سعر التكلفة العلاجية لأنها بالعرف الاقتصادي inelastic. لذا فمقارنة الصحة بقطاع الاتصالات أو غيره فيها إجحاف للقطاعين.

ختاما، يجب أن نكون حذرين عند الحديث عن خصخصة الخدمات الصحية ومفهومها وألا يكون الحديث حول هذا الموضوع الحيوي بناء على قراءات عابرة أو مغلوطة أو نتيجة فهم خاطئ. فخصخصة الخدمات الصحية ليست يا أبيض أو أسود بمعنى إما مع خصخصة الخدمات الصحية وإما ضدها، بل لا بد من التفصيل في ماهية الخدمات التي يراد تخصيصها أو خصخصتها؟ ومن الشرائح المستهدفة منها؟ وما آليات تطبيق الخصخصة بشكل تفصيلي؟ باختصار أنا مع الخصخصة الذكية.

(المصدر: الاقتصادية 2015-08-13)