دروس أزمة اليونان لمصر
تباطأ الإعلام العربى والمصرى فى الاهتمام بما يحدث فى اليونان، بالرغم من أهمية الدروس التى يجب استخلاصها حتى تتجنب مصر أزمة مماثلة.
التواصل المصرى اليونانى ليس بالمرة وليد الساعة، فبالرغم من ان خبراء الحضارات القديمة لم يتفقوا بعد عما إذا كانت حضارة الفرعنة او حضارة الإغريق هى الأقدم، إلا ان درجة التلاحم بين هاتين الحضارتين شكلتا جزءا من الثقافة العالمية التى نعيشها الآن، فلا تزال مناقشاتنا عن الديمقراطية مثلا ترجع إلى أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان القدماء، واسم مدينة الاسكندرية نفسها يذكرنا على الدوام إلى من تعود هذه التسمية استمر التواصل المصرى اليونانى فى العصور الحديثة فمن بين الأقليات الأجنبية فى مصر كان اليونانيون بالإضافة إلى الإيطاليين، أكثرهم عددا وحتى اندماجا فى المجتمع ويتذكر الشيوخ منا النجمة كيتى فى نهاية الخمسينيات وأصحاب ما يسمى «الفرن الأفرنجى» والذى يؤشر على التحام هذه الاقلية اليونانية بعكس الانجليز أو الفرنسيين ـ فى طبقات المجتمع المصرى الوسطى وما أدناها ألم يرفض المرشدون اليونانيون اثناء أزمة السويس فى سنة 1956 الضغط الاجنبى لترك عملهم ووقفوا بجانب المصريين لتجنب وقف الملاحة فى هذا الشريان العالمى وحتى اثناء ترحالك الآن تجد فى بعض بقاع العالم من أمريكا وكندا إلى غرب افريقيا بعض اليونانيين الذين ولدوا فى مصر ثم اضطروا للهجرة ويحتفظون بلغتهم العربية المكسرة وفى الواقع لا يعرفون بلدا اصليا لهم غير مصر.
هذا التواصل المصرى ــ اليونانى يزيح الستار عن بعض مشكلات دول أوروبا المطلة على المتوسط فبالرغم من انها عضو كامل فى الاتحاد الأوروبى فإن التواصل الثقافى الذى يربطها بدول أوروبية أخرى فى الشمال مثل ألمانيا أو الدول الاسكندنافية هو أقل بكثير مما يربطها مع الدول غير الأوروبية المطلة على المتوسط مثل لبنان أو مصر والمسافر إلى اليونان أو الجنوب الإيطالى أو الإسبانى يشعر فى كثير من العادات أو التنظيم الاجتماعى كأنه فى المغرب أو تونس، وذلك رغم اختلاف اللغة وفى الواقع الإلمام بمفهوم «المسافة الثقافية» هو ما يشرح تصويب اليونانيين من أسبوعين «لا» هى أساسا ليست «لا» فقط لبرنامج التقشف القاسى ولكن أساسا رفض بمنهجية الشمال الأوروبى ونظرته المتعالية لأوروبا المتوسطة بما فيها الجنوب الإسبانى والإيطالى هناك إذن انقسام وصراع شمال/جنوب داخل أوروبا نفسها.
بالرغم من هذا التقارب النسبى بين الدول شمال المتوسط وجنوبه فإن هناك اختلافات فمتوسط دخل اليونانى هو نحو 6 أضعاف دخل المصرى وبالنسبة لمقياس التنمية البشرية فهناك ما يقرب من 80 فارقا فى المرتبة العالمية (اليونان فى المرتبة 29 بينما مصر فى المرتبة 110 فى سنة 2014 ، وهو ما يوضح الفارق فى التعليم والرعاية الصحية لاشك أن هذا الفارق يضيق الآن مع تدهور الأوضاع فى اليونان ولكن المشكلة السكانية الكبيرة فى مصر غير موجودة فى اليونان فتعداد سكانها الكلى يزيد قليلا على عشرة ملايين اى أقل من ثلثى سكان مدينة مصرية كالقاهرة كما أن السياحة عندها قوية للغاية، حيث إن هناك العديد من الشمال الأوروبى الذين يمتلكون شققا فى اليونان كما هو الحال فى إيطاليا وأسبانيا، بحيث يعيشون هناك شهورا متعددة من العام، هذا بالطبع بالإضافة إلى السياحة المؤقتة الروتينية، ومع ذلك فالأزمة اليونانية متزايدة ولا نعرف حتى كتابة هذه السطور قرار دول الشمال الأوروبى وهل سيؤدى هذا إلا إفلاس اليونان بعد إغلاق البنوك حتى الآن لمدة أسبوعين حيث إن بعض المرضى لا يستطيعون الآن شراء الدواء والحمد لله ان مصر ليست بالمرة فى هذه الحالة، ولكن يجب استخلاص على الأقل أربعة دروس اساسية:
أولا: خطر الاعتمادية على الخارج: بالرغم من وجودنا فى قرية عالمية، فإن الإفراط فى الاعتماد على القروض ينتهى بالتأثير على السيادة الوطنية وحتى الكرامة وتاريخ مصر واضح من حيث وجود تفاقم الدين فى القرن الـ 19 ووجود وزيرين أجنبيين فى اجتماعات الوزارة المصرية للإشراف على المالية المصرية ثم انتهاء بالاحتلال البريطانى لمصر.
ثانيا: العيش فى غيبوبة بدلا من مواجهة المشاكل وحلها: فالأرقام والوثائق تقول إن المشكلة اليونانية بدأت قبل أن تدخل هذه البلاد منطقة اليورو فى سنة 2001 ثم مع التهاون وعدم مسئولية الحكومات المتعاقبة، تفاقمت المشكلة لتصبح أزمة والآن على وشك كارثة إنسانية وكما يقول صحفى أمريكى من أصل يونانى فى كتابه هذا العام عن الفاجعة اليونانية تقترب البطالة من 30% وينكمش الناتج المحلى الإجمالى بشكل مستمر ومخيف وتتدهور البنية التحتية وترتفع مستويات الانتحار والتشرد وتجد الحكومة اليونانية نفسها أمام خيارين كلاهما مر قبول شروط الشمال الأوروبى المجحفة او الخروج من منطقة اليورو والوقوع فى كارثة اقتصادية و «ثورة الجياع»
ثالثا الفساد: من مساعدة القطط السمان على التهرب الضريبى وحتى غسل الأموال إلى الفساد البسيط على المستوى الشعبى ولكن يستنزف مالية الدولة ويزيد فى عجز الموازنة العامة ويذكر مؤلف «الفاجعة اليونانية» زيارته لجزيرة العميان هكذا تسمى لان سكانها يدعون العميان للاستيلاء على اعانات وزارة الصحة ويكشف أعمال تدليس أخرى التى تكلف الخزانة اليونانية المليارات من اليورو.
رابعا: اللعب بالمعلومات والكذب الجزء الأكبر من الأزمة بين الشمال الأوروبى واليونان هو عدم وفاء اثينا بوعودها أزمة ثقة ومصداقية فى المقام الأول. عندما دخلت اليونان منطقة اليورو فى سنة 2001 تلاعبت بأرقام الموازنة العامة (بالتواطؤ مع بعض مسئولى الاتحاد الأوروبى لكى تستفى الشروط (عجز موازنة لا تزيد على 3% ) واستمر هذا التلاعب السياسى على مر السنين وفى الواقع فإن رئيس الوزارء الشاب (41 عاما) تسيبيراس يجد نفسه فى موقف صعب، لأنه طلب «تفويضا» شعبيا لمقاومة برنامج التقشف الأوروبي، ولكن يجد نفسه حاليا غير قادر على هذا، بل إن برنامجه المقترح للأوروبيين يقبل شروط التقشف، ولذلك هناك ثورة واستقالة حتى داخل حزبه والذين يشعر بعض اعضائه ان هناك عملية خداع وغش، وإذا استمر هذا التلاعب السياسى فقد تجد اليونان نفسها خارج أوروبا ولو مؤقتا فاقتصادها يمثل أقل من 2% من اقتصاد الاتحاد الأوروبى
(المصدر: الاهرام 2015-07-14)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews