أزمة اقتصادية. أم مأساة إغريقية؟
للعولمة مزاياها ومساوئها، ولكن من الممكن أن نقول باطمئنان إن مزاياها (الاقتصادية على الأقل) تفوق مساوئها مادام كان العالم الخارجى، الذى يطوى الدولة بجناحيه، فى صحة جيدة، وطالما كانت العلاقة بين الدولة، وبين هذا العالم الخارجى، علاقة الند بالند، وليست علاقة خضوع من جانب وسيطرة من جانب آخر.
خطر لى هذا وأنا أتتبع التطورات المثيرة التى مرت بها اليونان فى السنوات الأخيرة، وتحولت فى الأسابيع الأخيرة إلى دراما اهتم بها العالم كله، وتابع أحداثها ساعة بساعة.
القصة قد تبدو فى البداية مجرد أزمة اقتصادية حدثت هذه المرة فى اليونان، كما تحدث من حين لآخر فى دولة بعد أخرى، ولكن الأمر هنا مختلف.. فالأزمة طالت حتى تجاوز عمرها خمس سنوات، والتدهور فى مختلف المؤشرات الاقتصادية الاساسية فاق الحدود المألوفة.. فمعدل نمو الناتج القومى الذى، كان 4٫2% سنويا فى السنوات السبع الأولى من هذا القرن، أصبح سالبا فى السنوات الثلاث الأخيرة، ويقدر الانخفاض فى الناتج القومى منذ سنة 2010 بنحو 25% وارتفعت نسبة الديون الخارجية إلى الناتج القومى حتى بلغت 177% وهى تزيد بنحو الثلث عما يمكن اعتباره نسبة مقبولة، والبطالة كانت 7٫3% قبيل الأزمة، فأصبحت 25٫6% فى مارس2015، وارتفعت نسبة البطالة بين الشباب من 20% إلى 50%.
والأخبار تأتى بأمثلة صارفة فى قسوتها لمعاناة الشعب اليونانى، بمختلف طبقاته (باستثناء بالطبع الشريحة العليا الصغيرة التى تنجو دائما من المعاناة)، ولكن هناك أيضا القسوة غير المعتادة فى طريقة معاملة الاتحاد الأوروبى لليونان (التى أصبحت اليونان عضوا فيه منذ 1981) واصرار مؤسساته المالية العليا، مدعومة بحكومات أكبر الدول الأوروبية، وعلى الأخص ألمانيا وفرنسا، وبتأييد من صندوق النقد الدولى، على فرض برنامج للتقشف بعد آخر على اليونان، يزيد من معاناة اليونانيين، بما فى ذلك تخفيضات كبيرة فى الانفاق على الخدمات العامة الضرورية وتخفيض المعاشات، من أجل إجبار اليونان على سداد ديونها للبنوك الأوروبية، ولصندوق النقد الدولى.
القصة لابد إذن أن تهم الجميع، إذ تبدو أنها قصة تتكرر فى كل مكان، وإن كانت بدرجات متفاوتة الفقراء يخضعون لتسلط الاغنياء، ويجبرون دائما على المزيد من التضحيات، وأغنياء الدولة التى تمر بالأزمة، ينضمون إلى أغنياء الدول الأخرى، ويؤيدونهم فى سحق فقرائهم، لتمكينهم من استمرار ما يمارسونه من فساد. الدول الصغيرة يجرى اغراؤها بالانضواء تحت لواء العولمة، لما يبدو للعولمة من مزايا، ولكن هذه الدول الصغيرة هى أول ضحايا أى أزمة تمر بها الدول الكبرى، بينما قد تكون هذه الأزمة نتيجة مباشرة لما ارتكبته هذه الدول الكبرى من أخطاء.
لقد استمرت اليونان فى تحقيق معدل معقول للنمو حتى وقعت الأزمة المالية العالمية التى بدأت بانهيار بعض الشركات الكبرى فى الولايات المتحدة فى 2008 ومنذ هذا التاريخ بدأ تدهور الاقتصاد اليونانى، لاعتماده الشديد على التصدير، خاصة فى خدمات السياحة والملاحة البحرية... ولكن المعاناة لابد أن تزيد فى دولة تشتد فيها درجة الفساد، وتزيف فيها الامضاءات، وينتشر التهرب من الضرائب، لقد انتشر الحديث عن عدم مصداقية الامضاءات الرسمية اليونانية، وقرر أن الدولة حصلت من الضرائب فى 2012 أقل من نصف المستحق لها، وفى السنة نفسها ذكر أحد التقارير الدولية أن اليونان هى أكثر الدول فسادا من بين دول الاتحاد الأوروبى.
لم يسمح الوضع السياسى فى اليونان إذن، لعدة سنوات، باتخاذ إجراءات لمواجهة الأزمة الاقتصادية، عدا الالتجاء إلى الاقتراض من البنوك الأوروبية، ومن صندوق النقد الدولى، رغم قسوة شروط هذه القروض، ثم تكرر العجز عن السداد بسبب استمرار الأزمة العالمية من ناحية، واستمرار الفساد من ناحية أخرى.
ثم جاءت إلى الحكم فى اليونان (منذ شهور قليلة) حكومة من نوع جديد، أرادت أن تضع حدا لهذا التردى بأن تحاول مقاومة التسلط الخارجى (من البنوك الأوروبية والبنك المركزى الأوروبى وصندوق النقد الدولى) وتعالج الفساد الداخلى فى الوقت نفسه، كان هذا هو مغزى الاستفتاء الذى طرحه رئيس الوزراء اليسارى الجديد (تسيبراس tsepras) الأسبوع الماضى، إذ طلب من شعبه الاختيار من أن يقول نعم أو يقول لا ردا على آخر طلبات الاتحاد الأوروبى بالمزيد من التقشف فى مقابل دفعة أخرى من القروض، كان قول «لا» معناه أن تمتنع اليونان عن السداد طبقا للبرنامج الزمنى الذى يتطلبه الاتحاد الأوروبى، ومن ثم تمتنع عن اتخاذ إجراءات التقشف المطلوبة من أجل ضمان السداد طبقا لهذا البرنامج، وقد أعطى الشعب اليونانى صوته بالرفض (بنسبة 61%).
كان هذا التصويت بالرفض ينذر بالطبع بمتاعب ومشقة ولكن متاعب من نوع آخر، فهو قد يعنى الاضطرار للخروج من الاتحاد الأوروبى، والتخلى عن العملة الأوروبية (اليورو) والعودة إلى العملة الوطنية (الدراخما) أى الانسحاب بدرجة أو بأخرى من (العولمة) والاعتماد بدرجة أكبر على النفس، ولكن الاعتماد على النفس يعنى بالضرورة مقاومة الفساد الداخلى حتى يمكن توجيه الموارد الوطنية إلى ما يحتاجه الوطن حقا.
لم يكن المسار واضحا تماما إذن، أمام من يصوتون بالرفض، ولكنه بدا وكأنه الموقف الوحيد الذى يتسم بالشجاعة، وتحدى الإذلال، أملا فى الخروج من نفق مظلم طويل، رغم غموض ما ينتظرهم خارج النفق. كان من الطبيعى أيضا أن يستبد الغضب بالدول والمؤسسات المالية الكبرى فى الاتحاد الأوروبى، فالبنوك تريد استرداد أموالها، والحكومات الأوروبية (ومعها صندوق النقد الدولى) تعتبر نفسها ممثلة لهذه البنوك أكثر من تمثيلها للشعوب.
لم يكن هناك بدّ إذن من أن يرى العالم مشهدا يقف فيه طرفان موقفا يتربص فيه كل منهما بالآخر، كان تصويت اليونانيين بتأييد الحكومة التى ترفع شعار الاستقلال والكبرياء القومية حتميا، إذ شعر فقراء اليونانيين بأنهم، برفضهم شروط الدائنين، ليس لديهم فى الحقيقة ما يخسرونه، سواء انتصرت الحكومة أو انتصر الدائنون، فمهما يكن ما يمكن أن يتعرضوا له من عقوبات إذا اضطرت حكومتهم للتراجع، فلن يكون حالهم حينئذ أسوأ مما كان قبلها، مع وجود احتمال، مهما يكن صغيرا أن ينتصروا فى النهاية برضوخ الدائنين وقبولهم إلغاء جزء صغير أو كبير من الديون.
*****
ليست أحداث اليونان الأخيرة إذن مجرد أزمة اقتصادية، بل هى أيضا، بمعنى من المعانى، تراجيديا إغريقية، يمكن التنبؤ بنهايتها متى عرفنا البداية.
عندما سئل المفكر الأمريكى المعروف ناعوم تشومسكى عن رأيه فى الأزمة اليونانية قال إنها «حرب طبقية» وأظنه كعادته قد وضع يده على لب المشكلة، ولأنها (حرب طبقية) فمهما تكن تطوراتها بين يوم وآخر، فإنها لابد أن تطول. قد يتنازل أحد الطرفين عن بعض مطالبه مؤقتا، ولكنه سيعود للقتال من جديد.
(المصدر: الاهرام المصرية 2015-07-13)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews