خروج اليونان من اليورو مكلف .. وبقاؤها أكثر تكلفة
الحقيقة التي تنظم صناعة السياسة الاقتصادية الحديثة هي أن المُلِح يميل إلى حجب المهم. أما الأمر المُلح في هذه القضية فهو المأزق المهم حول ما إذا ستبقى اليونان في اليورو. والأمر المهم هو المستقبل المجهول للعملة الموحدة والتهديد بتفكك مشروع التكامل الأوروبي لما بعد الحرب.
كانت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، مسؤولة كليا عن أوروبا. ورغم جميع جهودها الرامية إلى إنقاذ اليونان من نفسها، تقلص موقف فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي، بسبب اقتصاد بلاده الضعيف. أما ديفيد كاميرون، الذي يخطط لإجراء تصويت على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فهو ليس في الميدان. بدلا من ذلك يحذر رئيس الوزراء البريطاني السياح من الحصول على كثير من اليورو عند الشروع للانطلاق إلى الجزر اليونانية.
من دون أوروبا متماسكة، تكون ألمانيا تائهة. فهم المستشار الأسبق، هيلموت كول، ذلك عندما أزيل جدار برلين. كان اليورو الصفقة الفرنسية الألمانية التي يمكن أن تجعل ألمانيا الموحدة آمنة بالنسبة لأوروبا. رغم ذلك، توقع كول ألمانيا أوروبية، وليس أوروبا ألمانية.
في الوقت الذي تتنقل ميركل بين برلين وبروكسل يبدأ الإجهاد في الظهور. خدعتها عندما اندلعت أزمة اليورو كانت إقناع الناخبين في ألمانيا بأن هناك ما يستحق الدفع لإنقاذ اليورو، بينما تداهن دول منطقة اليورو الضعيفة وتقنعها بالتوجه نحو التقشف وبرامج الإصلاح. تم استبدال التضامن بالمسؤولية. قد تقول الحكومات في إيرلندا وإسبانيا والبرتغال إن الخطة نجحت. لكن مع اليونان تكون ميركل قد سقطت.
خطأ مَن؟ هناك قدر كبير من اللوم يكفي لتوزيعه على الجميع. كما لاحظ سيجمار جابريل، زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، كان لا ينبغي أبدا السماح لليونان بالانضمام لليورو. الآن بعد أن وقع ما وقع، نعلم أنه كان من الخطأ أيضا استبعاد أي إمكانية للإعسار السيادي في منطقة اليورو في عام 2012 - رغم أنه من الأسهل حل هذه القضية الآن أكثر مما كانت عليه سابقا في فترة الجيشان. أما عمليات الإنقاذ اللاحقة فقد خلفت لليونان كثيرا من الديون. قدم سياسيو أثينا وعودا لم يكونوا ينوون الحفاظ عليها قط.
كانت إدارة سيريزا، برئاسة أليكسيس تسيبراس، هي أسوأ الجميع - غذتها خلطة مدمرة تجمع بين الأيدولوجيا الماركسية، وحكاية دائمة تقوم على أن اليونان ضحية، وقلة حيلة تخطف الأنفاس. كانت هناك صفقة لإبرامها مع الدائنين. يمكن للقائد الأكثر نضجا أن يسعى إلى الإعفاء من الديون مقابل الانضباط في المالية العامة والحملة للقضاء على الفساد والمحسوبية التي تشوه الديمقراطية اليونانية. بدلا من ذلك، تم استبدال شكل متواضع من التهديد بخطر الانهيار المالي بالآفاق الاقتصادية الآخذة في التحسن.
وينبغي ألا تشعر بقية أوروبا بالسرور لذلك. إن ادعاء المرء الصلاح وسلامة موقفه ليس بديلا عن السياسة الاقتصادية الذكية. بوجود اليونان على عتبة الخروج من اليورو، لاحظ السياسيون في البلدان الأخرى الهدوء الذي خيم على الأسواق. بالتأكيد، ألا يعد ذلك دليلا إيجابيا على أن جدران الحماية في منطقة اليورو قوية ضد العدوى؟ لست متفائلا جدا. فالصدمات تكون في كثير من الأحيان، كما تعلم، صاعقة عندما يتم توقعها على نطاق واسع.
على أي حال، يكمن الخطر الكبير في العدوى السياسية. أنقذت السياسة اليورو عندما توقع الاقتصاديون في كل مكان زواله الوشيك. مثل هؤلاء المهنيين المتشائمين استهانوا باستعداد ألمانيا للمواجهة، وإذا استثنينا اليونان، تصميم البلدان المدينة على البقاء في اليورو. الآن، العوامل السياسية هي التي يمكنها التسبب في انهيار المشروع.
العاطفة الموجهة وراء سخط أوروبا الحالي هي عبارة عن شعور واسع الانتشار بقلة الحيلة. تصور الناخبون اليونانيون بأنهم جُرِّدوا من أن يكون لهم أي رأي يفسر اختيارهم في الاستفتاء الذي جرى نهاية الأسبوع الماضي. اصطدم تصويتهم بالرفض، مع رغبة معظم اليونانيين البقاء في اليورو، لكن كتصرف فيه يأس وتحد، فإنه ينطق بإحباط المواطنين عبر القارة.
هذا هو الشعور الذي ينبغي للقادة السياسيين الحاليين الخشية منه. فهو قد عمل على استخراج نزعات قومية قديمة وعمل كموظف تجنيد للأحزاب المتطرفة التي تتحدى الآن النظام المعتدل في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. الجبهة الوطنية لمارين لوبان في فرنسا، وحركة الخمس نجوم التابعة لبيبي جريلو في إيطاليا، وبوديموس في إسبانيا، وبيجيدا في ألمانيا - كلها تخطط لشعبوية تغذي الشعور بأن المواطنين العاديين أصبحوا مارة على الهامش عاجزين في عالم يعمل لمصلحة النخبة فقط.
أوروبا تتعرض للهجوم من جميع النواحي - من الطبيعة الثأرية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشرق، ومن ارتفاع تطرف الإسلاميين العنيف في الشرق الأوسط، ومن الهجرة غير المنضبطة عبر بلدان المغرب على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط. حين تستثير بضع سنوات من التقشف والريبة المتزايدة من العولمة، فليس من الصعب تفسير ارتفاع النزعة القومية.
لا يمكن إلقاء اللوم على الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بمشاعر انعدام الأمن بسبب العولمة، ولا فيما يتعلق بعدوان بوتين، ولا فيما يتعلق بالحروب الطائفية في الشرق الأوسط. مع هذا، كانت عبقرية الشعبويين في تمرير الغضب العام نحو بروكسل واتحادها النقدي غير المكتمل. ولا يزال ينبغي للقادة الأوروبيين تقديم رد مقنع. إنهم يظهرون تقريبا شعورا بالحرج من أن يقولوا إنه في عالم تبتعد القوة فيه سريعا عن الغرب، فإن من الأفضل لهم البقاء معا.
اليونان بلد فريد من نوعه، وعموما هي السبب في المأزق الذي تتعرض له. إلا أنها تبقى جزءا حيويا في الاستقرار الجغرافي في القارة. ومهما يقول مسؤولو المصارف المركزية أو وزراء المالية، فإن اليورو بدون وجود اليونان سيكون مشروعا ضعيفا جدا- أقرب إلى نظام سعر صرف ثابت منه إلى اتحاد نقدي. بالطبع، التمسك باليونان سيكون مكلفا. لكن فقدانها سيكون مكلفا بصورة خطيرة.
(المصدر: فاينانشال تايمز 2015-07-12)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews