الحماس للاقتصاد السلوكي يوتر أجواء الحي المالي في لندن
في وقت ما في الفترة الماضية كشف جورج أوزبورن، وزير المالية، عما سماه "تسوية جديدة" مع الحي المالي.
أوزبورن، الذي يسبح في بحر من رأس المال السياسي بعد شهر من فوز حزب المُحافظين الحاسم في انتخابات السابع من أيار (مايو)، أعلن عن نهاية العصر الذي كانت فيه صناعة الخدمات المالية "جزءا من المشكلة - الآن يجب أن تكون جزءا من الحل". وأضاف أن "المملكة المتحدة ينبغي أن تهدف إلى الحصول على الخدمات المالية الأكثر تنافسية في العالم". بالنسبة لكثير من أفراد الجمهور - بما في ذلك دوجلاس فلينت، رئيس مجلس إدارة "إتش إس بي سي" HSBC، وأنطونيو هورتا أوسوريو، الرئيس التنفيذي لمجموعة لويدز المصرفية - كلمات أوزبورن لا يُمكن إلا أن تكون موضع ترحيب. فبعد خمسة أعوام من الشعور بالتجريح، وعدم التقدير والمبالغة في التنظيم، كان المصرفيون الحاضرون يشعرون أخيراً ببعض الحب. لكن كلمات أوزبورن ربما حملت رسالة مختلفة للرجل الذي يجلس في الخلف بين الجمهور أبعد قليلاً من فلينت وهورتا أوسوريو؛ مارتن ويتلي.
باعتباره الرئيس التنفيذي لهيئة المراقبة المالية في الممكلة المتحدة، وهي سلطة السلوك المالي، كان ويتلي بمثابة المسؤول المُزعج بالنسبة للصناعة. فمنذ إنشاء سلطة السلوك المالي في عام 2013، طالبت بعقوبات أشدّ من أي وقت مضى على المصارف الكبيرة بعد فضائح تزوير ليبور ومعدلات الصرف الأجنبي، وحصلت على مستويات قياسية من التعويضات للمُستهلكين بعد فضيحة احتيال في مجال التأمين، وحققت انتصارات رفيعة المستوى ضد شخصيات مثل إيان هانام، صانع الصفقات المُغامر السابق في "جيه بي مورجان" كازينوف. تحت قيادة ويتلي، حصلت سلطة السلوك المالي أيضاً على صلاحيات جديدة واسعة، بما في ذلك الإشراف على شركات القروض الصغيرة - للإشراف على 50 ألف شركة جديدة - وأدوات جديدة لمكافحة الاحتكار.
لكن الآن الحكومة تركز على القدرة التنافسية لا على الأزمة. وجهة النظر الرسمية، كما قال أوزبورن لجمهوره في منزل عمدة لندن في العاشر من حزيران (يونيو)، هي "ليست هناك أي مُفاضلة بين المعايير العالية للسلوك والقدرة على التنافس".
يقول مُطّلعون "إن المسؤولين في الحكومة حثّوا في محافلهم الخاصة المُنظمين على اتخاذ نهج أقل استبداداً". (وزارة المالية تنفي هذا). ولعل السؤال الذي يحتاج ويتلي إلى أن يسأله لنفسه هو ما إذا كانت سلطة السلوك المالي بحد ذاتها هي الآن جزء من المشكلة، وليس الحل؟ يقول أحد المُنظمين السابقين "لقد أعلن مارتن نواياه بحزم كبير لحماية المُستهلك. والآن الانتخابات تتركه على الجانب الخطأ من الجدال".
بالتأكيد يبدو أن رئيس سلطة السلوك المالي يُدرك هذا التحوّل. في خطاب الشهر الماضي لجمهور يضم مُنظمي الأوراق المالية من أنحاء العالم كافة، ذكر كلمة "منافسة" عشر مرات. وقال "التنظيم الفعّال لم يُعد يُعتبر نقيض النمو، بل شرط ضروري له. على مدى (العقد( التالي، سيُحكم علينا حسب قدرتنا على تسهيل المُنافسة، واحتضان الابتكار دون أن نخنقه".
تجربة أليمة
ما سماه أوزبورن "تسوية جديدة" هو بعيد كل البُعد عن موقف حزبه ما بعد الأزمة تجاه التنظيم. في عام 2010، أعلنت الحكومة الائتلافية الجديدة بقيادة حزب المُحافظين خطة لتفكيك سلطة الخدمات المالية - فقدت صدقيتها بسبب سياسة عدم التدخل التي يُجادل بعضهم بأنها أدت إلى تفاقم الأزمة المالية - وإعادة الإشراف على المصارف إلى بنك إنجلترا، في حين إن هيئة مراقبة جديدة وأكثر صرامة ستتولى تنظيم الشركات المالية بقبضة من حديد بدلاً من اللمسة الخفيفة.
وسيكون في قيادتها ويتلي، الذي كان آنئذ رئيسا للجنة الأوراق المالية والعقود الآجلة في هونج كونج. الابن المولود في إسيكس لسمكري الذي أصبح مسؤول حسابات لم يُكن مُلوّثاً بالارتباط بنظام سلطة الخدمات المالية القديم.
هناك تجربة أليمة في هونج كونج من شأنها تشكيل نهجه في سلطة السلوك المالي. عشرات الآلاف من المُساهمين الأفراد في المدينة تم بيعهم ما يُسمى السندات الصغيرة - التي كانت في الواقع مُشتقات مُعقدة يدعمها مصرف ليمان براذرز وتُباع من قِبل المصارف المحلية بما في ذلك بنك الصين - انخفضت قيمتها عندما انهار "ليمان" في عام 2008. وكانت قد تمت الموافقة على المُنتجات من قِبل لجنة الأوراق المالية والعقود الآجلة برئاسة ويتلي. وبعد ذلك جاءت الاحتجاجات في الشوارع.
يقول ويتلي في مقابلة في مقر سلطة السلوك المالي في كناري وارف "أن يكون هناك دمية تمثّلك يتم حرقها على درجات المبنى الذي تسكن فيه، وأن تكون هناك لوحات إعلانية لك مع قرون الشيطان ويُطلَب منك أن تعود إلى وطنك - هذا يجعلك تُركّز على علاقتك بالمجتمع. كان الأمر يتعلق برؤية علاقة المُنظم ليس فقط مع المؤسسات الخاضعة للتنظيم لكن مع المجتمع ككل، هذا كان بالفعل ما قامت هونج كونج بجلبه لي. فنحن نعيشه كل يوم هنا". عديد من كبار الشخصيات في الحي المالي كانوا ليقوموا بمرح بحرق دمى تمثّل ويتلي أيضاً، لو لم يتم توصيل عدائهم بفاعلية أكبر في الاجتماعات الخاصة مع كبار السياسيين من حزب المُحافظين.
أطلق النار أولاً
دق ناقوس الخطر لأول مرة في الحي المالي في عام 2012، عندما تعهد ويتلي بأن سلطة السلوك المالي ستحمي المستهلكين من "عدم العقلانية" الخاص بهم. وجاءت تعليقاته لتعكس حماسة عصرية للاقتصاد السلوكي.
لكن كلماته كانت تتعارض بشكل خطير مع نصيحة "احذر أيها المُشتري" - أحد المبادئ الأساسية بالنسبة لكثيرين في مجتمع الشركات البريطانية وحزب المُحافظين. ويعتقد هؤلاء أن تحمّل تكاليف الأخطاء هو ما يدفعه الأفراد ثمناً للحرية المالية.
لم يكُن بإمكان ويتلي توقّع هذا الإحياء للروح الليبرالية. في عامه الأول تعهد "بإطلاق النار أولاً وطرح الأسئلة فيما بعد" عندما كان يتعلق الأمر بحظر المُنتجات المُحتمل أن تكون ضارة. كذلك فرض تدابير حكومية جديدة صارمة على كبار المسؤولين التنفيذيين كانت تهدف إلى تحميلهم مسؤولية الإخفاقات أثناء ولايتهم. لم يكن أيّ من هذا ليحظى بشعبية لدى المصرفيين في الحي المالي. لكن بعد ذلك قام بتسليم نقّاده جميع الذخائر التي كانوا بحاجة إليها، عندما قرر إطلاع أحد الصحافيين في آذار (مارس) 2014 على خطة سلطة السلوك المالي لمراجعة سوق التأمين على الحياة، وهو قرار كانت له عواقب وخيمة. وشهدت شركات التأمين الرئيسية في المملكة المتحدة أسعار أسهمها تنخفض بسبب سوء الفهم بأن هيئة التنظيم كانت تنوي استهداف منتجات معينة من المعاشات.
المُفارقة كانت لا مفر منها. سلطة السلوك المالي مكلفة بضمان أن تتمتع الأسواق بالشفافية والنزاهة، مع ذلك إصدار بيان من السلطة إلى السوق استغرق 16 ساعة. وكتب أوزبورن إلى ويتلي للتعبير عن "قلقه العميق" وأشار إلى أن اتخاذ إجراء تأديبي يمكن أن يكون مناسباً. وتبع ذلك تحقيق مستقل كلّف 3.8 مليون جنيه.
ووجد التحقيق أن سلطة السلوك المالي اتبعت استراتيجية إعلامية عالية المخاطر فشلت في تقدير طبيعة المعلومات التي تؤثر في الأسعار التي نقلتها إلى صحيفة "ديلي تليغراف". وكان التقرير المكون من 225 صفحة، الذي نُشر في كانون الأول (ديسمبر)، بمثابة لائحة اتهام لاذعة. ووجد التحقيق أن ويتلي شخصياً وافق على عمليات تنوير مُسبق من النوع الذي أثار الفضيحة. وكونه لم يتم إجباره على الاستقالة بسبب هذه المسألة أزعج كثيرين في الصناعة، الذين اعتبروا ذلك نوعا من المعايير المزدوجة.
وأدى هذا الإخفاق إلى تأكيد مخاوف أعمق. لجنة الممارسين، وهي مجموعة من مختصي الصناعة الذين يتحدّون المُنظم، قالت "كان هناك خطر كامن في رغبة سلطة السلوك المالي في جذب العناوين الرئيسية لتسليط الضوء على عملها". في الوقت نفسه، قالت لجنة شكلتها وزارة المالية "إن سلطة السلوك المالي مُختلّة وظيفياً، وتستحق تدابير خاصة، وينبغي إجراء تحقيق كامل". يرُد ويتلي "أنا لا أوافق على أنها منظمة مُختلّة وظيفياً أو أننا بحاجة إلى مراجعة شاملة".
الجفاء والنفور بين سلطة السلوك المالي واللجنة المُختارة الجديدة - التي ستتم قيادتها مرة أخرى من قِبل عضو البرلمان من حزب المُحافظين، أندرو تايري - قد يؤدي إلى متاعب: بالنسبة لأحد المُنظمين السابقين، حين تفقد اللجنة المُختارة الثقة بقيادة هيئة المراقبة عندها ستفشل.
وهذا يضع ويتلي في موقف ضعيف، انطلاقاً من التعليقات الجانبية التي أدلى بها أعضاء اللجنة السابقة، وعديد منهم سيكونون في اللجنة الجديدة التي تم تشكيلها بعد انتخابات أيار (مايو).
ويقول أحدهم "وجهة نظرنا أنها ببساطة كانت مؤسسة فاشلة. كنّا نشعر بقلق كبير بشأنها، وويتلي لا يعطينا الانطباع بأنه يؤدي عملا جيدا بما فيه الكفاية". ويتلي وجون جريفيث جونز، رئيس مجلس إدارة سلطة السلوك المالي، ليس لديهما فترات ولاية مُحددة. وكل منهما يتم تعيينه - وفصله - من قِبل وزارة المالية. ويتوقّع مُطّلعون أن ويتلي سيغادر في عام 2016، عندما يكون قد خدم أربعة أعوام. وجريفيث جونز يُصر على أنه لم يكُن من الضروري أن يتنحى ويتلي عن منصبه. "أنا لا أعتقد أن الأشخاص ينبغي أن يُطردوا في كل مرة قاموا فيها بعمل خاطئ. سيكون هناك نقص كبير في الأشخاص الذين يبقون في العمل".
علاقة متوترة
آخرون يعتبرون التداعيات نتيجة أسلوب سلطة السلوك المالي في القيادة. يقول أحد المُنظمين السابقين "اعتمد مارتن الرأي القائل لا يُمكن أن يُصبح غنيمة للصناعة ولا ينبغي إطلاقاً أن يرتبط بها. في بعض الأحيان عليك الأخذ بمطالبهم والاستماع. مارتن خائف جداً أن يُصبح غنيمة تنظيمية بحيث قام بتجميدهم تماماً. هذا أمر جيد لكن عندها الصناعة بالكامل ستحاول هزيمتك لتفشل - وفي مؤسسة مثل سلطة السلوك المالي لا بد أن يكون هناك فشل". هناك مجموعة تمثّل جزءا من القطاع تشتكي من أن الجميع، باستثناء الشركات الأكبر لا يتم التعامل معهم من قِبل مسؤول أو فريق واحد في سلطة السلوك المالي، بل يتم تحويلهم إلى مركز الاتصال. ويقول المُتحدث باسم المجموعة: "هذا الأمر ليس جيداً بما فيه الكفاية. الوقت الذي نستغرقه للحصول على رد طويل جداً، وجودة الموظفين ليست كبيرة". النتيجة هي أن العلاقة بين الشركات الخاضعة للتنظيم والمُنظم قد أصبحت أكثر عدائية. وبعض الشركات الآن لن تفكّر في الاجتماع مع سلطة السلوك المالي بدون حضور محام، مثلا.
يقول ويتلي "أنا أجتمع بالفعل مع الشركات الكبيرة. لكن الحقيقة هي أن لدينا 73 ألف شركة لتنظيمها وهذه عملية مُرهقة. لكنني حريص جداً على أن تكون لدينا علاقة تعاونية مع الصناعة".
بعض هذه الشركات تتمتع بنفوذ أكبر من غيرها. وويتلي لم يكتسب ذلك النوع من الاحترام المُتذمر من فئة النخبة في الحي المالي الذي كان يتمتع به سلفه، السير هيكتور سانتس، عندما كان رئيسا تنفيذيا لسلطة الخدمات المالية. ويقول رئيس مجلس الإدارة في إحدى المؤسسات الكبيرة "أنا أملك كثيرا من الوقت لمارتن. لكنه ليس محبوباً بشكل كبير". عدم ثقته بنفسه يمكن أن يُعتبر نوعا من الغطرسة، في حين إن ميل سلطة السلوك المالي إلى رفض عديد من المرشحين الذين طرحتهم مجالس الإدارة للمناصب العُليا في الحي المالي "تسبّب في انسحاب هائل للموهبة"، بحسب أحد كبار الشخصيات في الحي المالي. إذا كان يُمكن وصف علاقة ويتلي مع الصناعة بأنها مُتحفّظة، فداخلياً يعتبره موظفوه بعيدا بالقدر نفسه. ولكونه شاحبا وطويلا، فهو يوصف باللقب المؤسف "مصاص الدماء الرمادي" بين بعض موظفيه الأكثر قساوة. يقول أحدهم "باعتبارنا من الموظفين العاديين، نحن لا نراه على الإطلاق".
لكن أولئك الذين بقوا في سلطة السلوك المالي منذ عام 2013 منقسمون. يقول بعضهم "إن ويتلي أحدث تغييرات نحو الأفضل، مع تركيزه الذي لا يكّل على حماية المُستهلكين، الأمر الذي يعترف به حتى نُقّاده الذين يقولون إنه أنجز عملا لائقا في هذا الجانب". ويقول أحد الموظفين الحاليين "بصراحة، التركيز على حماية المُستهلك في عهد ويتلي يوازي كثيراً ما أردت القيام به، وهو السبب في انضمامي إلى هيئة التنظيم".
لكن التحقيقات في سوق الصرف الأجنبي وفي فضيحة الليبور حولت الانتباه بعيداً عن انتصارات حماية المُستهلك هذه. كما قامت الفضائح برفع الغرامات التي تفرضها سلطة السلوك المالي ـ التي تذهب الآن إلى وزارة المالية ـ إلى مستويات قياسية. لكن حتى ويتلي يعترف بأن الغرامات المكونة من تسعة أرقام بحد ذاتها لا تقوم بتحسين الثقافة. مع ذلك، الفضائح جعلت السلوك يحتل مكانة بارزة. وضع "السلوك داخل غرفة مجلس الإدارة" هو، في رأي ويتلي، أعظم انتصار لسلطة السلوك المالي، حتى لو كان أعضاء مجلس الإدارة يشتكون من التغييرات بمرارة. يقول أحدهم "إن الأجواء تدخُليّة للغاية. واجتماعات المجلس تستمر لمدة أسبوع". السؤال الذي يظل عالقا هو دور سلطة السلوك المالي في المرحلة المقبلة. يقول جريفيث جونز "لا أشعر بكثير من الضغط الذي يدفعني إلى تقليل حماية المستهلكين. ولا أفترض أن هناك كثيرا من الناخبين الذين يجادلون لمصلحة ذلك. الجانب الذي تصبح فيه الأمور أكثر تعقيدا بقليل هو الحي المالي. إذا لم تكن لديه سمعة بالاستقامة، فأعتقد أنه سيتضرر بسرعة كبيرة".
المهمة
73 ألفا هو تقريبا عدد الشركات التي تتولى السلطة تنظيمها. ومع أن هذا الجهاز التنظيمي مستقل، إلا أنه مسؤول أمام وزارة المالية والبرلمان.
الخلفية
مليارا دولار هي القيمة التقديرية للسندات الصغيرة والمنتجات الأخرى التي ضمنها مصرف ليمان براذرز وبيعت إلى مستثمرين في هونج كونج. لجنة الأوراق المالية والعقود الآجلة، برئاسة ويتلي، وافقت عليها قبل انهيار المصرف.
النصر
284 مليون جنيه هو مبلغ الغرامة التي فرضتها السلطة على "باركليز" في أيار (مايو). وهي أكبر غرامة تنظيمية في تاريخ بريطانيا، وكانت جزءا من دفعة مقدارها 2.38 مليار جنيه، التي كانت غرامة مقابل التلاعب في أسعار صرف العملات الأجنبية والتلاعب في أسواق أخرى على مدى خمس سنوات.
(المصدر: فاينانشال تايمز 2015-07-07)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews