المركزية العربية المفرطة تُفاقِم الفوارق بين مناطق البلد الواحد
تتميّز البلدان العربية بدرجة عالية مـن المركزية الإدارية مقارنةً بالبلدان الناشئة والنامية الأخرى، إذ ورثت نظاماً مركزياً للضرائب والإدارة العامة من الدولة العثمانية، وبعد ذلك من القوى الاستعمارية الأوروبية. ولم تعمل الأنظمة الاستـبدادية التـي حكمت بلداناً عربية بعد استقلالها، على تقاسم السـلطة وتوزيع الموارد في شكل عادل بين المناطق، بل حالت دون إقرار أي شكل من المشاركة السياسية الفاعلة.
بيد أن معظم البلدان يملك مستويات متعددة في مجال الإدارة المحلية من محافظات، ومراكز، وبلديات، وهيئات أخرى. ويمكن وصف النظام الحالي على أنه شكل من أشكال التفويض الإداري، يتّخذ فيه المركز القرارات، في حين تعمل الإدارات المحلية على تنفيذها في مجالات محددة تشمل عادةً صيانة شبكة الطرق المحلية، وتزويد الأسر بالماء، وتدبير الصرف الصحي، وجمع النفايات، وقد تمتد أحياناً إلى خدمات النقل ومكاتب الرعاية الصحية المحلية.
وأدّت المركزية المفرطة التي ميّزت البلدان العربية، إلى ظهور تباينات مناطقية كبيرة، وإقصاء اجتماعي واقتصادي لفئات عريضة داخل البلد الواحد. ولعبت هذه التباينات دوراً بارزاً في تأجيج الانتفاضات العربية. وتتيح التغيّرات الجارية في المنطقة فرصة تاريخية يتطلّع الناس من خلالها إلى مشاركة أوسع في صنع القرار، والاستفادة من الموارد المتاحة، والولوج إلى فرص اقتصادية أفضل، لا على مستوى الحكومة المركزية وحسب، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، في محيطهم المباشر وعلى مستوى المناطق التي ينتمون إليها.
ويتّضح من خلال تقويم تجارب الدول العربية، أن عوامل موضوعية متعدّدة تعيق عملية المساهمة الفاعلة للإدارات المحلية في تقديم الخدمات الأساسية، وحفز الاستثمار، والدفع قدماً بعجلة النمو الاقتصادي.
يظهر العامل الأول في القدرات المالية المحدودة للإدارات المحلية، وتُقدَّر حصة إنفاق الإدارة المحلية من الناتج المحلي الإجمالي بأقل من خمسة في المئة في غالبية البلدان العربية، ما يمثل 12 في المئة من الإنفاق الوطني العام. وهذا مستوى مماثل لمتوسط النسبة في البلدان، بينما يقلّ في شكل واضح عن نظيره في البلدان الناشئة حيث تصل حصة إنفاق الإدارة المحلية إلى 26 في المئة، كما يقلّ كثيراً عن مستوى 32 في المئة المُسجَّل في البلدان المتقدّمة.
ويتجلّى الثاني في هيمنة الأجور والتكاليف الجارية الأخرى على إنفاق الإدارات المحلية، ففي مصر، تمثّل فاتورة الأجور 80 في المئة من الإنفاق المحلي في خلال السنوات الأخيرة. إضافةً إلى ذلك، لا تحدّد الإدارة المحلية معدّلات الأجور، بل تضمن فقط دفعها نيابةً عن الحكومة المركزية. أما في المغرب، فتخصّص الإدارات المحلية في المتوسط 55 في المئة من إنفاقها الجاري للأجور، و38 في المئة لأوجه الإنفاق الجاري الأخرى مثل الوقود والماء والكهرباء والاتصالات والنقل.
ثالثاً، تُعَدّ الإيرادات المحلية ضعيفة نتيجة اللامركزية المالية المحدودة، فالمستويات المحلية لا تتمتع بسلطة اتّخاذ أي قرارات في شأن فرض الضرائب وتحصيل الإيرادات. في مصر يصنَّف أقل من 10 في المئة من الموارد التي تتلقّاها الإدارة المحلية على أنه عائدات محلية ذاتية. وتُقدَّر هذه الحصة بنحو 24 في المئة في المغرب. أما باقي الإيرادات فتُحصّل عن طريق الأجهزة المركزية للدولة بالنيابة عن السلطات المحلية أو عن طريق التحويلات المالية التي تخصّصها الدولة لدعم الإيرادات المحلية.
رابعاً، تعاني الإدارات المحلية في الدول العربية اعتماداً مفرطاً على تحويلات الحكومة المركزية. فالغرض الأول من هذه التحويلات هو سدّ الفجوة بين تكاليف المهام الموكلة إليها محلياً، وبين مقدار الإيرادات المحتملة التي يمكن أن تجمعها. والغرض الثاني هو تقليص الفوارق بين المناطق. وكثيراً ما تُستَخدَم صيغةُ توازن كي تتمكّن المناطق ذات الإيرادات الضعيفة من الحصول على موارد تضمن مستوًى لائقاً من الخدمات مقارنة بالمناطق الأكثر ثراءً. وتمثّل التحويلات أكثر من أربعة أخماس مجموع الموارد المالية المحلية في مصر، وأكثر من 90 في المئة في بعض المحافظات. وفي المغرب، تمثّل التحويلات نحو 60 في المئة من إجمالي الإيرادات المحلية.
خامساً، ليس ثمة بيانات إحصائية مفصّلة عن أعداد الموارد البشرية ومؤهّلاتها على المستويات المحلية في كثير من البلدان العربية. بيد أن بعض المؤشرات يشير إلى أن غياب الحوافز المالية وضآلة فرص الترقّي والتطوير الوظيفي يحولان دون استقطاب الأفراد المؤهّلين، ويقيّدان عملية الانتقال نحو اللامركزية.
حرّرت الانتفاضات العربية أصوات الناس بمَن فيهم سكان المناطق النائية المنسيّة أو المهمّشة في السياسة الوطنية. ينبغي أن يؤدّي النقاش السياسي الناشئ في سياق التحوّلات الجارية إلى حقبة جديدة في العلاقات بين الدولة المركزية والمناطق. ويحتاج كل بلد إلى تحديد الصيغة المناسبة ما بين تأمين الحوافز الضرورية لتحسين تقديم الخدمات، وإطلاق المبادرات والطاقات المحلية من خلال اللامركزية السياسية والمالية، وفي الوقت ذاته ضمان أن يلعب مبدأ التضامن الوطني دوره عبر تحويلات الدولة المركزية لضبط الفوارق المناطقية.
لا بد أن نشير في الختام أن اللامركزية على أهميتها ليست حلاً سحرياً، بل ينبغي أن يجري تنفيذها ومتابعتها في شكل صحيح في ظل حكومة مركزية قوية، فهي قد تؤدّي إلى اختلال في التنسيق وزيادة التكاليف الإدارية، أو تعاني من ضعف الكفاءات في صفوف الموظفين المحليين. كما أن اللامركزية من دون وضع الاحتياطات المناسبة قد تسبّب في توسيع نطاق الفساد والمحاباة على المستوى المحلي، وتقوّض أي مكاسب اقتصادية محتملة لتنفيذها.
( المصدر : الحياة اللندنية )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews