قوة الدبابات السرية في المعركة على القدس
اتفاق الهدنة بين اسرائيل والاردن الذي تم التوقيع عليه في نيسان 1949 في رودوس، أبقى على جبل المشارف (وفي داخله مستشفى هداسا والجامعة العبرية) جيبا اسرائيليا في المنطقة الاردنية.
كما حدد الاتفاق أن تقوم قوة شرطية اسرائيلية بحماية الجيب وسمح بأن تصعد قافلة الى الجبل لتنقل قوة الشرطة هذه، وكذلك ايضا لنقل التموين والمحاضرين في الجامعة والاطباء من هداسا. بند آخر في الاتفاق حدد حظرا على استخدام الاسلحة فوق قطر نصف إنش. الى هنا الاتفاق، والآن الى الوقائع. عدد لا بأس به من المنشورات التي صدرت تحدثت عن الجيبات المفككة التي أخفيت اجزاؤها في المصفحات وهربت الى الجبل وتحدثت عن الانفاق والجحور التي حفرت تحت الجبل وعن كميات كبيرة من الوسائل القتالية والمواد المتفجرة. الشرطة الذين صعدوا في القافلة كانوا في الحقيقة جنود من الجيش الاسرائيلي وصلوا الى معسكر شنلر وحصلوا على زي الشرطة واجتازوا تدريبا قصيرا. كما أن موكب الصعود الى جبل المشارف الذي كان يبدأ من بوابة مندلبوم الاسطورية باشراف ضباط من قوات الامم المتحدة، بدا أكثر من مرة كاستعراض. ضباط استخبارات وضباط من وحدات مختلفة، الذين خدموا في القطاع الاردني، صعدوا الى الجبل تحت غطاء اطباء ومحاضرين من اجل جمع المعلومات الاستخبارية ودراسة المنطقة ورصد ما وراء منطقة معاليه ادوميم وغور الاردن، حيث ركز الفيلق معظم قواته.
تجربة طرق ليلية
لكن السر الاكبر للقدس في تلك السنوات كان سرية الدبابات التي أخفيت فيها، والتي كانت لها اهمية حاسمة في القتال على القدس في حرب الايام الستة. بداية قصة سرية الدبابات كانت في احتفالات العقد الاول لاقامة دولة اسرائيل. حينها طلبت اسرائيل من الاردن بواسطة قوات الامم المتحدة أن تجري في العاصمة استعراضا عسكريا، ومن بين ما طلبته كان السماح لها في احضار كتيبة دبابات «شيرمن ام. 1» من اجل المشاركة في العرض، وأرفق بالطلب تعهد بأن يتم في اليوم التالي للاحتفال عودة الدبابات الى وسط البلاد. الاردنيون عارضوا بشدة ولكن بعد عمليات اقناع بوساطة متفانية من ضباط الامم المتحدة تم الاتفاق على أن يجرى العرض في ستاد الجامعة العبرية في جفعات رم، وأن تهتم قوات الامم المتحدة في القدس بأن تغادر كل الاسلحة المحظورة وفي الاساس الدبابات القدس حال الانتهاء من العرض.
وبالفعل، في نهاية العرض أنزل الجيش الاسرائيلي عن الجبل فقط ثلاث سرايا، السرية الرابعة قسمت الى قسمين – ست دبابات أخفيت في ثلاثة اجنحة أُعدت مسبقا داخل معسكر شنلر في قلب القدس، وثماني دبابات اخرى تم احضارها بعملية عسكرية مركبة لمعسكر ستف بين عين كارم وكيبوتس تصوبا.
عملية ابقاء سرية الدبابات في القدس تم القيام بها بعناية بالغة. فخلال اخلاء السرايا الثلاثة تمت دعوة رجال الامم المتحدة الى حفل عيد الاستقلال الذي أقامه الجيش الاسرائيلي على شرفهم في أحد النوادي الليلية في يافا. واثناء الاحتفال في يافا مع الكثير من الكحول تمركزت سرية الدبابات الرابعة في القدس. الدبابات أخفيت في ثلاثة اجنحة في معسكر شنلر وكل واحد من الاجنحة بدا كمبنى عادي في واجهته بوابة مع نوافذ. ومع ذلك، في الجزء الخلفي للجناح هدموا الحائط ووضعوا عليه بوابات حديدية كبيرة التي مكنت من خروج ودخول الدبابة. الدبابات الثمانية في معسكر ستف تم تخزينها تحت مظلة دبابات عادية.
هنا أنضم الى القصة. الفترة كانت ربيع 1965، وكنت حينها في فترة ما قبل انهاء التدريب في معسكر تسالم الذي تضمن تدريب طواقم من الاحتياط الذين اجتازوا عملية تحول الى الدبابة الجديدة – القديمة من انتاج الصناعات العسكرية «شيرمن ام. 51». قائد الكتيبة بن ميمون استدعاني وقال لي: «في يوم الخميس اجمع اغراضك الشخصية، وفي نهاية عطلة السبت ستذهب الى القدس». نظرت اليه بدهشة. «القدس؟ ماذا سأفعل هناك؟ منذ متى توجد هناك دبابات؟». قائد الكتيبة الذي شعر بارتباكي اجاب فورا: «لا تقلق، هذا ليس عقابا، هذا هدية. ستصل الى شنلر وتمثل أمام الرائد طرزان (ديفيد بن عوزئيل من الوحدة 101، وهو ضابط عمليات اللواء 16)، وهناك ستتلقى منه شرحا عن مهمتك القادمة».
في يوم الاحد ذاك وبعد توجيه دقيق من قبل طرزان، تعرفت على المهمة. وقد وقعت على تصريح سري لمدة عشرين سنة، وسارعت لمقابلة طاقم الطوارىء الخاص بي، الذي تولى الاشراف على سرية الدبابات الاكثر سرية في الجيش الاسرائيلي، سرية كانت مكونة من دبابات «سوبر شيرمن» من بقايا الحرب العالمية الثانية.
سرية الدبابات كانت جزءً من كتيبة القيادة المدرعة 182 لقيادة المركز. والتي كان كل طاقمها من رجال الاحتياط وكان على رأسها الرائد احتياط اهارون كمارا، وهو شخصية مقدسية معروفة. الدبابات الستة التي أخفيت في معسكر شنلر كانت مملوءة بالوقود ومسلحة وجاهزة للخروج الفوري لأي مهمة. كان ملقى علينا كطاقم طوارئ عدد من المهمات. الاولى أن نكون مستعدين للانطلاق في كل لحظة خلال اليوم حيث أن الهدف الاول هو تقديم المساعدة اثناء الهجوم على جبل المشارف أو على القافلة. كان علينا التعرف جيدا على المحور الذي يوصل الى جبل المشارف، وأن ندرس ونتعرف على كل موقع اردني في المنطقة بما في ذلك نوع وكمية الاسلحة في كل موقع.
مهمة اخرى كانت التعرف على كل افراد الطاقم في السرية – الاسماء والوظائف ومكان السكن والعمل. في حالة الاستعداد العالية والتهيؤ للعمل في القدس كان علينا استدعاءهم بدعوة صامتة، بواسطة سيارة طوارىء وضعت تحت تصرفنا. المهمة الثالثة هي أن نهتم كل يوم من جديد بأن تكون الدبابات صالحة، وهذا اقتضى منا تشغيلها اثناء وجودها داخل الاجنحة بدون فتح النوافذ حتى لا يتم احداث ضجة ودخان اكثر من اللازم. في احدى المرات شغلت أنا وواحد من سائقي الدبابات دبابتين في نفس الوقت في أحد الاجنحة وقد أغمي علينا. وبفضل يقظة زملائنا في الطاقم وصلنا الى مستشفى هداسا. عندما استيقظت سألني الطبيب: أين تنفست كل هذا الدخان؟ فأجبته أننا شغلنا موتور في غرفة مغلقة في شنلر. الحفاظ على هذا السر الكبير كان مهما جدا لدينا. كان هذا هو السبب الذي ذهبنا فيه بملابسنا المدنية وقلنا لجنود القاعدة في غرفة الطعام في المعسكر بأننا من وحدة تلقي القبض على المتهربين من الخدمة. وعرفانا بفضل رجال الاحتياط للوحدة المقدسية علينا القول إنه من الصعب أن نرى اليوم اخلاصا كهذا لوظيفة في الاحتياط.
قائد السرية كان يأتي مرتين في الاسبوع الى شنلر. الضباط والجنود هبوا للمساعدة عندما كان علينا اخراج الدبابات مرة في السنة من الاجنحة لتجريب الطريق – جولة قصيرة في ستف، بعيدا عن العيون. في تلك الايام التي نفذت فيها تجارب الطريق كان هناك من اهتم بتنظيم حفلات في تل ابيب لجنود الامم المتحدة. وعندما حل الظلام، ناقلة الدبابات المدنية كانت تدخل الى شنلر وكانوا يحملون عليها الدبابة ونذهب الى ستف. هناك في الطريق الجبلي كنا نسير نحو ساعتين ونفحص الاجهزة وبعد ذلك نذهب لاحضار دبابة اخرى. بعد ثلاث ليال أنهينا التجارب على الدبابات الستة. أما مع الدبابات الموجودة في معسكر ستف لم تكن مشكلة في تنفيذ تجربة الطريق، لكن هناك حرصنا على تنفيذ حركة الدبابات في الليل فقط.
الأمر الذي لم يصل
تلك الايام من ربيع 1965 اصبحت متوترة. في كانون الثاني تأسس تنظيم فتح الذي بدأ في تنفيذ العمليات، وفي الاساس من الحدود الاردنية، وخطط حسب المعلومات التي حصلنا عليها لمهاجمة القافلة في طريقها الى جبل المشارف. في ليل 4 ايلول من تلك السنة، وردا على نحو ثماني عمليات ارهابية نفذتها فتح من مناطق يهودا والسامرة، قامت قوة مظليين بتنفيذ عملية تفجير لـ 11 بئر ومضخة مياه كانت تروي الحقول في منطقة قلقيلية.
في صباح ذلك اليوم كانت القافلة ستذهب الى جبل المشارف. من القيادة بدأت الانذارات بالتدفق عن نية واضحة لفتح لتنفيذ عملية انتقام ضد القافلة وضد قواتنا في الجبل.
وصلت في صباح ذلك اليوم الى القدس سرية من كتيبة المظليين 890 واستعدت لكل تطور، وقبل خروج القافلة من المندلبوم باتجاه جبل المشارف تلقيت أمرا باخراج دبابة من الجناح في شنلر وأن اكون مستعدا. كنا اولادا، لم نكن نخاف في ذلك الوقت من الحرب، لهذا ابتهجنا بالدخول في قتال – بهجة كانت مختلطة بالمغامرة الشبابية. أذكر أن سائق الدبابة سألني ضاحكا في تلك اللحظات من التوتر: قل لي، اذا كان الضوء احمر في الاشارة الضوئية في شارع اسباط اسرائيل، فهل نتوقف أم نواصل السير؟ اخراج الدبابة من الجناح اذهل الجيران حول المعسكر. جنود كثيرون في شنلر، الذين حتى تلك اللحظة لم يعرفوا عن الدبابات في المعسكر، كانوا مصعوقين. كنا على اتصال مع قوة المظليين التي استعانت بنا بالمعلومات عن مواقع الفيلق. اجهزة الاتصال اللاسلكية لم تتوقف وكنا متأهبين في الدبابة بانتظار الأمر الموعود «تحرك، تحرك، انتهى». الامر لم يسمع والقافلة وصلت الى الجبل وانزلت الجنود والمعدات والطعام، القوة التي نزلت من الجبل عادت بسلام وكلهم تنفسوا الصعداء، وعادت الامور الى مجاريها.
في حرب الايام الستة كان للسرية المقدسية المدرعة دور مهم وحاسم في الحرب على المدينة، وهو دور تم اخفاؤه. السرية انقسمت الى قوتين، الاولى بقيادة كمارا وعملت في جنوب شرق المدينة الى جانب مقاتلي اللواء 16 المقدسي، وهو الذي اخضع في الساعات الاولى للمعركة الفيلق الاردني الذي سيطر على قصر المندوب السامي. كمارا الذي اندفع على رأس فصيلي دبابات مكّن قوات المشاة من اخضاع الاردنيين والسيطرة على المكان. في القطاع الشمالي عمل قائد الفصيل رافي يشعياهو مع قوة المظليين التي اندفعت باتجاه مدرسة الشرطة في مبنى تلة الذخيرة، الذي سيطر من موقع متقدم على الطريق الى جبل المشارف.
لقد قيل وكتب الكثير عن المعركة البطولية للمظليين في خنادق تلة الذخيرة. لكن لم تُذكر في أي مكان الجملة التي قالها أحد ضباط الفيلق الذي وقع في الأسر خلال القتال: «مقاتلونا على تلة الذخيرة قاتلوا ببطولة، الامر الذي أخضعنا كان الدبابة التي اطلقت بدون توقف واصابتنا باصابات شديدة». كانت تلك دبابة رافي يشعياهو الذي قاتل طوال تلك الليلة مع فصيله في تلة الذخيرة. خلال المعركة على القدس وتوحيدها شاركت الدبابات في المعارك على مستشفى المطلع وجبل الزيتون، والمعركة للسيطرة على البلدة القديمة.
هذه هي قصة سرية الدبابات السرية للجيش الاسرائيلي التي نجحت في الحفاظ على سرها مدة تقارب العقد. سرية أخفيت بشكل جزئي في قلب القدس وهي مستعدة وجاهزة. وفي يوم صدور الامر اثبتت أن الجهود لاخفائها وصيانتها طوال سنوات كانت صحيحة، ومثل الدبابات المتواضعة فيها كان ايضا طواقمها، متواضعين ومتفانين ووطنيين وشجعان، يستحقون أن يكونوا في رأس قائمة اولئك الذين بفضلهم تم توحيد القدس.
(المصدر: معاريف 2015-05-18)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews