لا حلول لأزمات العراق مع الطائفية السياسية
كان يمكن للتجربة اللبنانية في الطائفية السياسية أن تصبح درسا عميقا للعرب والعراقيين بشكل خاص لما خلفته من تدمير شامل وغرق دائم في المشكلات. لم يستلهم السياسيون العراقيون التجربة الطائفية اللبنانية، لأنهم أولا لم يكونوا أحرارا في بناء قواعد الحكم الجديد الذي أداره الحاكم الأميركي بول بريمر، وثانيا لأن الوصفة الطائفية أعجبت السياسيين الشيعة ولامست عواطفهم في المظلومية المذهبية والتي جزء من رواياتها تثير كوامن الكراهية والانتقام والثأر بين أبناء الشعب العراقي والأمة العربية، في حين أن غالبية تلك الروايات تؤكد قيم التجانس والوحدة والمحبة.
قنن الحاكم الأميركي بريمر الطائفية ومحاصصاتها في الدستور الذي حدد هوية العراق “بدولة المكونات”، وغيّب هويته العربية حين أكد أن “عرب العراق هم جزء من الأمة العربية”، كما تم تطويع المنظومة الديمقراطية “الانتخابات” لكي تتيح للمنهج السياسي الطائفي أن يصبح مرشد الفعاليات السياسية والإدارية للبلاد، مع أن الديمقراطية هي نقيض للطائفية. ومن المناسب إيراد هذا المثال: فقد سبق لبرجنسكي مستشار الرئيس كارتر 1977-1981 أن أشار إلى رئيسه “بأن أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والدول والشعوب هي تعميق التعدد المذهبي والطائفي والعرقي، ومن خلال دعم طائفة معينة لقهر بقية المكونات”، ثم طلب من كارتر ونصحه بالسماح للشيعة السياسية بالسيطرة على الحكم في إيران على حساب القوى الثورية التي شاركت في الثورة ضد شاه إيران.
كان الغرض حسم النزاع حول القيادة المطلقة للسلطة لصالح الأحزاب الشيعية، وترك الفتات لسياسيي الإسلام السني يمثلهم حزب واحد، إلى جانب أفراد شكلوا كتلا برلمانية وتحولوا إلى سياسيي الصدفة، وتم استبعاد من يمتلكون إرثا وطنيا وسياسيا، في حين لاقى أبناء العرب السنة ما لاقوه خلال الإثني عشر عاما الماضية من الاضطهاد.
أولى مهام أي سلطة طائفية في العالم هي تحطيم الدولة الحديثة وتقسيم المجتمع وإلغاء الآخر وافتعال الأزمات وحتى الحروب المحلية، وتسهيل مهمات الفساد السياسي والمالي ودمجه بالإرهاب، ومنع أي محاولة لبناء دولة المواطنة المدنية، وهذا ما حصل في العراق. وهناك سلسلة من الأمثلة منذ عام 2003 حتى اليوم، حيث تم تنفيذ مفردات المنهج الطائفي في علاقة المواطن بمؤسسات الحكومة، فحصل التمايز في نيل الحقوق المدنية وتسلم الوظائف على أساس الهوية، وسلبها في أحيان كثيرة، ومنع الوظائف العليا في الحكومة إلا وفق المحاصصة الطائفية السياسية التي منحت سُنة (الحكومة والبرلمان) وظائف ثانوية لإهانتهم وإخضاعهم لمشروع الطائفية السياسية.
حولت الطائفية العراق إلى واحة للصراع والصدام، وتوالدت الأزمات الواحدة تلو الأخرى وآخرها احتلال داعش لأرض العراق، ومنعت الفرص أمام دعاة الاعتدال من داخل الطائفتين الشيعية والسنية، في حين فاضت أروقة العملية السياسية بشحنات التفكك والتطرف لا تجمع أجهزتها سوى المنافع الذاتية، وهذا مما سهل على مافيات الفساد التسلل خلف يافطات حزبية طائفية ثم أصبحت امبراطورية الفساد قوة مهيمنة، والأكثر مهانة دخولها مؤسسة الجيش الناشئة، والتي كان يعوّل عليها للدفاع عن الوطن، لكنها انكشفت وظهر عجزها أمام عصابات داعش التي تدفقت بسهولة على الموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى في يونيو 2014، كما تجاوزت القوى الطائفية مديات خطيرة بإثارة الصراعات حول مفردات الدفاع عن الوطن وأساليب المعارك وطرق التعبئة، والعمل على تهميش دور القوات المسلحة باعتبارها الأداة الشرعية الوطنية الأولى، لكي يستعان بالميليشيات القائدة للحشد الشيعي المحاطة أطرها التنظيمية حاليا بكل الرعاية من قبل حكومة العبادي في خطوة يقال إنها ستكون ذات أهمية في التحكم والسيطرة السياسية في العراق خلال الأيام المقبلة. في حين يدور كلام كثير حول تقلبات المواقف السياسية من مسألة “تسليح العشائر” وقانون “الحرس الوطني” من منطلقات طائفية، خصوصا بعد زيارة العبادي لواشنطن، وصدور قانون الكونغرس لدعم السنة والأكراد ككيانين مستقلين.
لا يستحق المشروع الجديد كل هذه الضجة من قبل الكتل الشيعية في تصعيد مرسوم للإزعاج السياسي ضد أميركا، وتعقيد مهمات العبادي وتطويقه لكي يبتعد عن الطرف الأميركي في هذا الظرف المعقد، حيث يزداد التنافس الأميركي الإيراني حول العراق. أميركا ليست جديدة في مناصرتها للفرقة والتقسيم والسؤال هو؛ أليس الأميركان هم الذين وضعوا التقسيم الطائفي السياسي ومنحوا السلطة وفقه للسياسيين الشيعة. أليس هذا التقسيم لا ينقصه سوى الشكل الإداري البروتوكولي، وأين ذهبت دعوات “الأقاليم الشيعية والسنية”. لعل الأكراد كانوا أكثر صراحة في كشف ما قدمته الطائفية من نتائج في تفتيت العراق وإغراقه بالأزمات. ولا حلول في الأفق ما دامت الطائفية السياسية مهيمنة على أوضاعه.
(المصدر: العرب 2015-05-11)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews