ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية مناسبة للاتعاظ
أحيى اللبنانيون قبل أيام ذكرى مرور أربعين سنة على الحرب الأهلية. هذه الحرب التي اشتعل فتيلها عام 1975 حصدت بطريقها عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى والمعوّقين، وقبل هذا وذاك حفرت أحقاداً وجراحاً طائفية ومذهبية ومناطقية بين أبناء الوطن الواحد لم يبرأ الكثير منها بعد.
أسباب كثيرة ساهمت باندلاع الحرب الأهلية، لعلّ أهمها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والتنكيل بأهلها وإرغامهم على اللجوء إلى الدول المجاورة. وهو سبب يتغافل عنه معظم اللبنانيين، فيحمّلون الوجود الفلسطيني في لبنان مسؤولية اندلاع شرارة الحرب، متغاضين عن السبب الحقيقي الذي دفع الفلسطيني للنزوح من وطنه والعيش في مخيمات تفتقد أدنى مقومات العيش الكريم.
بذل اللبنانيون جهدهم لرفع المسؤولية عن كاهلهم في التسبب بالحرب. فقدم البعض تبريراً بأن التنوّع الطائفي الذي يتشكل منه النسيج اللبناني، وعدم تكيّف كل مكوّن مع غيره من المكوّنات كان عاملاً أساسياً في التنافر فيما بينهم، رغم اقتناع اللبنانيين أن تنوّعهم ليس سبباً للقتل والتدمير الذي شهدته سنوات الحرب. علاوة على ذلك، التنوّع ليس ميزة خاصة بالشعب اللبناني ينفرد بها، فهو سمة تلازم معظم شعوب العالم سواء كان تنوّعاً طائفياً أو عرقياً أو إثنياً، وتكاد لاتجد دولة في العالم شعبها دينه واحد وعرقه واحد وأصوله واحدة. فالشعب الأميركي على سبيل المثال هو عبارة عن خلطة متنافرة من أديان وأعراق وأصول متباعدة، فتجد بينهم الأشقر والأسمر، والآسيوي والإفريقي والأوروبي واللاتيني، والمسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والملحد، لكن هذا التنوّع والاختلاف لم يقف مانعاً أمام قيام أهم وأقوى دولة في العالم.
ذريعة أخرى يختبئ وراءها اللبنانيون لتبرير حربهم الأهلية، وهي أنها كانت حرب الآخرين على أرضهم، وأنهم كانوا كأحجار الشطرنج، تحركهم القوى الخارجية حسب مصالحها وأهوائها، وأنه لو تُرك اللبنانيون لشأنهم لعاشوا بسبات ونبات، وخلّفوا صبياناً وبنات. وهو عذر أقبح من ذنب، فلو لم يكن اللبنانيون مهيئين ليكونوا أحجار شطرنج بيد الآخرين، لما تجرأ الآخرون على استخدامهم والعبث بهم واستباحة أرضهم لتصفية حساباتهم، ولتبادل الرسائل مع القوى الأخرى على حساب اللبنانيين. ليس هذا فحسب، بل إن نظرة سريعة على مسار الحرب الأهلية يكشف أن التهدئة التي شهدتها بعض محطاتها لم تكن وليدة تسويات داخلية، ومن المعروف أن الحرب ماكانت لتصل لنهايتها لو تُركت لإرادة اللبنانيين ووعيهم، فكان المَخرج بتوافق إقليمي ودولي، تُوّج بتوقيع اتفاق الطائف عام 1989. وربما لو لم يتوفر هذا التوافق لواصل اللبنانيون اقتتالهم حتى يومنا هذا. حتى في المحطات التي تلت نهاية الحرب، كان للخارج دور رئيسي في سحب فتيل أزمات كانت تهدد بتكرار سيناريو الحرب، كما حصل خلال أحداث عام 2008 حين استباح حزب الله وحلفاؤه بقوة السلاح العاصمة بيروت ومناطق أخرى، ولاحت في الأفق بوادر فتنة مذهبية، فكان المخرج برعاية قطرية قادها الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني تُوّج بتوقيع اتفاق الدوحة. والأمر نفسه يتكرر حتى يومنا هذا عند استحكام الخلاف بين اللبنانيين. وهو ما سنشهده لانتخاب رئيس للجمهورية، بعدما تعذر الاتفاق بين اللبنانيين وإصرار كل طرف على شروطه ومرشحه. تحميل اللبنانيين وزر ما يجري لهم لاينفي دور القوى الخارجية، لكنه في جميع الأحوال يؤكد هشاشة الوضع الداخلي، وتبعية الكثير من اللبنانيين للخارج، وانبطاحهم أمام رغباته ومصالحه على حساب مصالح اللبنانيين.
استرجاع ذكريات الحرب الأهلية ليس مناسبة لاجترار أحقاد الماضي وآلامه، بل للاتّعاظ منه، والنظر للمستقبل، ومحاولة تجنّب الأخطاء التي أدت إليها. فحين يقرّ اللبنانيون أن الحرب التي يتّمت أطفالهم ورمّلت نساءهم ودمّرت منازلهم كانت حرب الآخرين على أرضهم، مما يعني أن عليهم بذل كل الجهود لمنع استخدامهم مستقبلاً وقوداً لحروب الآخرين، وقبل ذلك يستدعي عدم انخراطهم في حروب الآخرين، وأن يتم استخدامهم أداة للقتل والتدمير كما يجري في سوريا. كما أنه على بعض اللبنانيين إدراك أن مشاكل لبنان تكفيه، وأن اللبنانيين بغنى عن استيراد مشاكل الآخرين، وهذا يعني وقف البعض عن حشر أنوفهم في أزمات ليسوا طرفاً بها، سواء في سوريا أو في العراق أو في اليمن أو البحرين، وسعيهم لرهن مصير لبنان وأمنه واستقراره خدمة لمصالح آخرين، ويقفون في مواجهة إجماع عربي واسع.
انتهت الحرب الأهلية، لكن من الواضح أن بعض اللبنانيين لم يتّعظوا منها، ولم يتعلموا دروسها، ولايكتفون بالسقوط في مستنقعات موحلة، بل يريدون إسقاط اللبنانيين معهم وتلويثهم بما لوّثوا به أنفسهم.
(المصدر: الشرق القطرية 2015-04-20)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews