لماذا لا يتعلم العرب من التعايش السلمي في الهند؟

الهند تختزلُ أو تكاد تقريباً كل عجائب و غرائب البشرية ماضيا و حاضراً و إخالُ أيضاً مستقبلاً. فيها مئات العقائد و الديانات و المعتقدات و آلاف اللغات و اللهجات و اللغات الدارجة و الرطنات و آلاف الأعراق و الإثنيات و الثقافات موزعةً على أكثر من مليار و مائتي مليون نسمة. لم أقرأ قطُّ كتاباً في علم الإجتماع سوسيولوجي Sociology (هذا العلم يُعنى بدراسات المجتمعات المعاصرة) أو في الأنثروبولوجيا Anthropology (و هذا العلم يُعنى بدراسة المجتمعات القديمة) إلا و يثير مؤلفوه إستغرابهم من التركيبة السكانية و الديمغرافية و العقائدية و الثقافية للشعب الهندي بصورة يندر -إن لم تكن معدومةً – وجودها في أي شعب آخر. في أحيانٍ كثيرة لا يستطيعوا أن يستوعبوا كيف يعيش الهنود في وسط هذا البحر العُباب من اللاتجانس المطلق.

الهنود الذين –مثلاً- يتحدثون بلغة الميليالَم لا يفهمون في العموم مواطنيهم الذين يتحدثون بلغة هندي Hindi (إسم اللغة و Hindu إسم إحدى مئات الديانات.) قِسْ على ذلك اللغات الرئيسة الأخرى كالكنَّدّهْ و الأُردو و الداّري و البشتون (كلاهما من لغات الأفغان كذلك بالنظر لوجود هنود من أصول داريّة و بشتونية.) بالمناسبة الهند رغم أنها بلد لاديني أو هندوسي (غير رسمي) فيها أكثر من مائتي مليون مسلم بين شيعة و سنّة مع غالبية بين السنّة.

طبعاً المطَّلعون على الهند يعرفون (المعرفة يسبقها جهل و العلم لا يسبقه جهل فهو علم الله) فيها الهندوس و هم في حدود الستِّمائة مليون مليون نسمة و فيها البوذيون و السيخ و المسيحيون بين أرذودوكس و كاثوليك و بروتستانت و غيرها من الطوائف المسحية أو النصرانية و فيها ملل و أمم و إثنيات و عرقيات أخرى (لم أستطع العثور على معلومة تؤكد وجود يهود. بَيْدَ أنني لا أستبعد وجود نسبة من اليهود الهنود). الشاهد أن كل عِرقٍ من هذه الأعراق غير المتجانسة في المطلق لا لغويا و لا دينيا و لا ثقافيا (من حيث طريقة التفكير مثلاً لأن احد تعاريف مفهوم الثقافة هو طريقة التفكير) يعبد ربه بطريقته. هل بين كل طائفة من العُبّاد متطرفون؟ أجل. غير أنهم لا يفرضوا تطرفهم على أحد إلا في حالات فردية.

الكل يذوب أو ذائب في وطنه الهند. أولويته الأولى و المطلقة للهند. المسلم السني مثلاً ولاؤه ليس لأي بلد إسلامي بل للهند و الشيعي ولاؤه ليس لولاية الفقيه بل للهند و النصراني على اختلاف طوائفهم و أطيافهم و ألوانهم و أنماطهم ولاؤه ليس للفاتيكان و ليس للكنسية الأنجليكانية أو غيرهما بل للهند. بمعنى أن ديدنهم الدين لله و الوطن للجميع. هذه العبارة لا تستفز أحد من المسلمين الهنود في حين في العالم العربي يقيمون عليك الدنيا و لا يُقعدونها و احتمال أن ينحروك كما فعل الكثيرون معي بعد نشر مقالة الأمس (لم يتم نحري صحيح و لكنْ جوبهتً بسيل عارم من الهجوم.)

تصوروا أن الهند التي فيها بشريفوق عددهم عدد العالم العربي بستِّ مرات و تقريباً يناهز عدد المسلمين كافةً، لا يحدث فيها ما يحدث في البلاد العربية و الإسلامية من فظائع و مآسٍ على أساس طائفي أو ديني أو عِرقي. الباكستان مثلاً بلد إسلامي و تم فصله بقيادة (محمد علي جناح) مؤسس باكستان الحديثة من أجل الإسلام و مع ذلك عدد المسلمين فيه أقل بكثير من عدد المسلمين في الهند. هذه ناحية. الناحية الأخرى أن المسلمين الهنود في الهند يعيشون في بلدهم المزدهر إقتصاديا و الذي يسجل نمواُ إقتصاديا متناميا و سريعاً و عاليا و يكاد يناهز معدلات النمو الإقتصادي في الصين (The Growth) و الهند و الصين تقودان دول البريكس (BRICS البرازيل و روسيا و الهند و الصين و جنوب إفريقيا.) لقد أنقذهم الله و لم يلتحقوا بالمسلمين الهنود الذين فضلوا باكستان و بنغلاديش فيما بعد لأن البلدين أصلهما هندي.

الهند هي الأصل. طالعوا الفرق. الباكستان منذ إستوت على عودها أو كادت تعيش في نفق مظلم لم تخرج منه حتى الآن. السنّة و الشيعة كما في العراق و اليمن و سوريا و البحرين و غيرها يتناحرون و يتقاتلون بالفظائع تقريباً نفسها و كأنها مستنسخة (cloned) و ما يحدث بينهم من تدمير للمساجد و التفجيرات بالسيارات المفخخة و الدراجات النارية و تقطيع الأوصال و نثر الأشلاء و غير ذلك.

إذن مالمشكلة؟ إشْ فيناَّ حناَّ العرب؟ (كما قال لي أحد كبار السن عندنا هنا في قطر) و شِالمشكلة مع المسلمين في البلاد الإسلامية؟ لماذا في الهند لا يحدث بين الشيعة و السنّة ما يحدث بينهم في الباكستان و أفغانستان و العالم العربي؟ هل هو طبيعة النظام السياسي؟ ربما؟ هل هي الجينات؟ ربما. هل هي الديمقراطية و الهند أكبر ديمقراطية في العالم. الديمقراطية الأكبر أو الكبرى عالمياًّ. هل هو الإنشغال بالعمل و النشاط و الإنتاج و الإبداع و النجاح و الإبتكارات؟ ربما. تداول سلمي مذهل على السلطة رغم شساعة البلد و ضخامته (India is huge and diverse) و تنوعه المذهل حسب وصف كل علماء الإجتماع و الأنثروبولوجيا الذين كتبوا عن الهند.

الصورة طبعاً معروفة في العالم العربي و مؤلمة و فظيعة. فقط دعوني أعطي نموذجاً لبلد عربي فيه تقريباً مليون كلهم من أبناء البلد أباً عن جد سنّة و شيعة يكرهون بعضهم بعضاَ و يقتلون بعضهم بعضاً ووو. لماذا؟ في حين في الهند كما سبق و فصَّلت لا يحدث شيء من هذا. ليس في العقل الجمعي على الأقل، ربما حالات فردية هنا و هناك. هل يمكن أنْ نتعلم من الهند؟ أم أننا سنظل إلى يوم الدين نضرب المثل بالغباء بعبارة ” يهْ أنا هندي؟” الهنود ليسوا أغبياء يا سادة و سيدات. الأغبياء همُ العرب و المسلمون المنشغلون بنحر بعضهم بعضاً. أولئك همُ هم الأغبياء حقاًّ الذين يرفضون أن يكون الدين لله و الوطن للجميع. هذا الرفض هو الذي يؤدي إلى كل ما نشهده بين العرب و المسلمين من كوارث و ذبح و نحر و تقطيع أوصال و لا نشهده بين المسلمين الهنود و غير المسلمين الهنود لماذا؟ لأن الشعب الهندي كله يؤمن و مقتنع تماماً أن الدين لله و الوطن للجميع. أكررها: هل يمكن أن يتعلم العرب و المسلمون من الهند؟ . رأي اليوم