هبوط أسعار النفط والحاجة لتنويع مصادر الدخل (3)
ذكرنا في مقال سابق أنه على خلفية تراجع أسعار النفط إلى مستويات الـ50 دولارا للبرميل، فإن المملكة تتكبد خسائر جمة أهمها استنزاف مورد ناضب، وفي إيراداتها غير المحققة ربما تصل إلى قرابة ثلث إيراداتها من بيعها للنفط الخام هذا العام، ما سيجعلها تسحب من مدخرات الاحتياطي العام الذي فاقت فوائضه المالية نحو 762 مليار دولار، وحتى لا تتآكل تلك المدخرات التي يجب أن يحافظ عليها كأصول للجيل الحالي وللأجيال المقبلة، فمن الضرورة بمكان أن تتبنى استراتيجية سريعة لحفظ ولتنمية تلك المدخرات وذلك بإنشاء صندوق سيادي لإدارة واستثمار الاحتياطي العام باستقلالية وبمهنية وشفافية عالية، ليكون أحد الروافد المالية للدخل، وبالتالي توفير دخل سنوي للمملكة غير مرتبط بأسعار البترول المتذبذبة ما يحقق مزيدا من الاستقرار الاقتصادي وكذلك مرونة أكثر في تبني سياسة نفطية مستقلة.
وهنا سنلقي الضوء على تبني النوع الآخر من الاستراتيجية الاقتصادية أي من خلال التركيز على ما تتميز به المملكة مقارنة بغيرها من باقي الدول الذي من شأنه توفير مورد مالي غير مرتبط ببيع البترول وبالتالي تحقيق تنويع مصادر الدخل؛ وخفض الاعتماد على إيرادات النفط؛ وهو الهدف الأساسي الذي تبنته كل الخطط الخمسية الحكومية التنموية منذ بداياتها الأولى (1970) إلى الآن ولكن لم تنجح فيه ولم تتحقق ولو حتى نسبة ضئيلة على الإطلاق، وبقيت واردات النفط تشكل أكثر من 90 في المائة من دخل المملكة، ما يستدعي مراجعة أولوياتنا الاستراتيجية ووضع أهداف زمنية متقاربة يقيم فيها مدى نجاحنا من عدمه في تخفيض تلك النسبة الكبيرة من اعتمادنا على عائدات البترول، وتحقيق الهدف المنشود لتنويع مصادر الدخل وذلك من خلال التركيز على المميزات النسبية للمملكة.
ماهية الميزة النسبية
تمكَّن نظرية الميزة النسبية صانعي القرار لدولة ما بتقدير الكفاءة النسبية التي يتم من خلالها مقارنة تكاليف إنتاج سلعة أو خدمة معينة بين الدول في التبادلات الخارجية. والتكلفة المعنية في هذه المقارنة تعني تكلفة الفرصة البديلة. وهناك عديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر في الأفضلية المقارنة للدولة مثل المميزات الطبيعية لبلد ما كالموقع الجغرافي، أو وجود آثار فيه أو وجود الموارد الطبيعية مثل أنهار، معادن بترول غاز .. إلخ، وتعرف فكرة إمكانية الإنتاج بنفقة أقل وبنوعية أجود عما يستطيع فعله الآخرون أو تحقيقه بفكرة الكلاسيكية للميزة النسبية. ولقد تطورت تلك النظرية تطوراً كبيرا أملته تطورات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وفسرت الميزة النسبية أو نسب عناصر الإنتاج اعتمادا على وفرة أو ندرة عناصر الإنتاج التي تدخل في إنتاج سلعة معينة، وهذه النظرية أو نظرية هيكشر- أولين المعروفة بنسب العناصر في التجارة الخارجية تبين أن اختلاف النفقات النسبية لعناصر الإنتاج يرجع إلى اختلاف معطيات الموارد، أي الوفرة أو الندرة النسبية لعناصر الإنتاج، نظراً لتواجد بلاد يتوافر فيها عنصر العمل بدرجة أكبر من توافره في بلاد أخرى، بينما هناك بلاد يتوافر فيها عنصر رأس المال بدرجة أكبر من توافر عناصر الإنتاج الأخرى (العمل - الأرض). ولهذا فهي ليست ثابتة وبعضها متاح للدول من خلال الاستثمار في استحداث مهارات القوى العاملة أو في التقنية أو غيرها. ولتوضيح ذلك ننظر إلى ما قامت به بعض الدول وما حققته من نجاحات اقتصادية باهرة على الرغم من أنها كانت تفتقر إلى كل شيء، ولكنها استطاعت من خلال تبنيها استراتيجيات الميزة النسبية أن تتفوق على باقي الدول التي لديها المقومات نفسها ولكن نجحت بالتأهل بالأفضلية المقارنة من خلال التركيز على النوعية، ونسوق هنا مثالين بارزين: الأول هو اليابان التي كانت تفتقر إلى كل شيء، بل كانت مهزومة ومدمرة بعد الحرب العالمية الثانية (1945)، ولكنها نهضت من لا شيء لتصبح أقوى اقتصاد في العالم بعد الدولة التي هزمتها وفي خلال ثلاثة عقود.
لقد تبنت الحكومة اليابانية استراتيجية نهضت بها من تحت الركام وحققت نهضة اقتصادية عظيمة في خلال ثلاثة عقود وتفوقت بها على باقي الدول. لقد انبثقت هذه المعجزة الاقتصادية أساسا من إعادة بناء المواطن الذي كان من السمات المميزة للاقتصاد الياباني أثناء سنوات "المعجزة الاقتصادية" الارتقاء بنوعية المواطن من خلال المدخلات التعليمية والثقافية ولاحقاً بتوفير العمل المناسب وتهيئة المناخ الملائم للعمل من خلال منهجية فائقة الذكاء ترتكز على تلبية رغبات القوى العاملة واحتياجاتهم سواء كان العامل صغيرا أو رئيس شركة حيث أنشأت كيانات متجانسة بين إدارة إيكيدا وكيرستو= (مجموعات الأعمال) وهو تعاون المصنعين والموردين والموزعين والمصارف في جمعيات مترابطة (إيكيدا وكيرستو) وبتعاضد من بين اتحادات نقابات الصناعات القوية رينقو- زينروكيو- زينرورن (تعاضد العمال) وسن القوانين والتشريعات التي من شأنها تعمق العلاقات الطيبة بين تلك الجمعيات مما حقق الرضا الوظيفي و"الشوشين كويو" أو ما يعني (ضمان العمل طوال العمر) لتشجيع الانتماء للعمل والشركة وحرص العاملين على ديمومة الشركة الضامنة لرزقهم طوال العمر. لقد حققت اليابان معجزة اقتصادية بالتركيز على عنصر موجود لدى الدول قاطبة وهو العنصر البشري، وجعلت منه ميزة نسبية تفوقت به على باقي الدول في خلال 15 عامًا حيث ارتفع إجمالي الناتج المحلي الاسمي ارتفاعًا كبيرًا من 91 مليار دولار في عام 1965 ليسجل رقمًا قياسيًا قيمته 1.065 تريليون دولار أمريكي عام 1980. ولقد تبع تلك المعجزة اليابانية دول كثيرة مثل كوريا الجنوبية التي نهضت بعد الحرب الكورية واستحدثت هي الأخرى مهارات القوى العاملة والتقنية نظرا لافتقارها إلى أي ميزة أخرى ونجحت فيها وتميزت نسبياً على باقي الدول. فلم يكن لتلك الدولة أي ميزة نسبية ولكنها حققت المعجزة كنظيرتها اليابان في خلال عقدين من الزمن (1960 - 1980) وفق استراتيجيات ركزت فيها على ميزة نسبية واضحة، أي العنصر البشري والتقنية العالية وتحول اقتصادها الزراعي إلى اقتصاد تقني الأمر الذي أخرجها من تخلفها في خلال عقدين فقط إلى أن أصبحت واحدة من أهم الاقتصادات تنافسية وديناميكية في العالم، وهي الآن تحتل المرتبة الرابعة بين دول آسيا، ومن العشر الأوائل على مستوى العالم من حيث الناتج القومي الإجمالي. وارتفع متوسط دخل المواطن من أقل من 100 دولار عام 1960 إلى أكثر من 20 ألف دولار عام 1990.
ولدى المملكة كثير من الميزات التي تجعلها قادرة على تنويع مصادرها للدخل على المستويين المتوسط والبعيد وفي المقالات اللاحقة سنلقي الضوء على تلك المميزات النسبية للمملكة الذي من شأنه ليس فقط تحقيق مزيد من الاستقرار الاقتصادي للمملكة، بل حتى تأهيلها بأن تصبح من أوائل كبريات الاقتصاد في العالم كاليابان وكوريا.
(المصدر: الاقتصادية 2015-03-01)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews