الحرية حين تهدد الدين أو بقايا 'الدولة'
النفق الذي خرجت منه أوروبا بالثورة الفرنسية على سلطة الكنيسة ندخله الآن مختارين. أتكلم عن مصر، فليس في الانتقاد المجاني الاستشراقي لأنظمة في شرقي العالم العربي أو غربيه شجاعة. النقد السياسي الآمن جبن مستتر، و”الدول” وحدها هي التي تتحمل الانتقاد، فلا رئيس “الدولة” يمثل أبا للمواطنين، ولا انتقاده يمس شرف الشعب.
في حرب الخليج شبّه بريطانيون في صور كاريكاتيرية رئيس الوزراء توني بلير بأنه “كلب بوش”، ولم تسقط بريطانيا العظمى، ولا قدم صاحب الكاريكاتير “المسيء” لمحاكمة تقضي بسجنه خمسة عشر عاما لمساسه بالذات “التونية البليرية”. تلك حرية دفعوا فيها دماء، وليس من السهل التنازل عنها، والعودة إلى ما قبل الثورة الفرنسية.
في أكتوبر 2003، وقف صنع الله إبراهيم على منصة دار الأوبرا بالقاهرة، أمام أكثر من 200 مثقف عربي وأجنبي، بعد أن تسلم جائزة ملتقى الرواية العربية. وضع الجائزة والشيك المالي على منصة صغيرة، وأخرج من جيبه ورقة. لم يكن يرتدي إلا قميصا فضفاضا يتسع لهذا البيان / الرصاصة، وأعلن رفضه الجائزة، وقدم حيثيات وسط تصفيق بعض أعضاء لجنة التحكيم أنفسهم (منهم محمود أمين العالم)، قائلا إنه يرفض الجائزة “لأنها صادرة عن حكومة غير قادرة على منحها”، متهما إياها بالفساد والقمع والتبعية. أطلق صنع الله سهمه، وترك الجائزة والشيك، ولجأ إلى الجماهير في المسرح. لو “وقعت الواقعة” في مكان آخر بالعالم العربي لاعتقل الكاتب وكل من صفق لشجاعته، ولكن نظام حسني مبارك كان يحتفظ ببقايا “الدولة”، فامتص الصدمة، وعاش سبع سنوات تالية.
ومن المساخر أن تتراجع مساحات الحريات في مصر، بعد ثورة رفعت شعار “الحرية”، في 25 يناير 2011، في سوء تقدير، واستحمار يوحي للشعب بأنه أخطأ حين ثار، وعليه أن يعتذر عن تفكيره في الثورة على نظام فاسد، وهي خطوات تصاعدية تضغط في اتجاه انفجار كبير وشيك، لإعادة السنة، وتحسين الظروف الثورية؛ فحسن الظن الثوري لا يفيد.
في الأيام الأولى لثورة 25 يناير لم يكن للشرطة وجود، وذلك خير. لم تسجل حالات اعتداء أو سرقة، باستثناء تلك التي جرت بترتيب من القوى المضادة للثورة، لإجبار الشعب على مغادرة الميادين. كان الأمل في الحرية أقوى من الخوف الذي أصاب ما بعد 30 يونيو 2013 بارتباك وعدم ثقة، فلجأ إلى تحصين نفسه بالمزيد من العدوان على هامش الحريات.
لا تفتعل “الدول” معارك صغيرة لإلهاء الناس، فتعلن الحرب على ثلاث روايات، كما فعل فاروق حسني في يناير 2001، أو تعتدي على وظيفة جهاز الراقبة، حين أجاز عرض فيلم “حلاوة روح”، فاعترض رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، وأعلن الانتصار لما يرى أنه “الفضيلة”، وقرر في أبريل 2014 منع عرض الفيلم. الأغرب أن الرجل -وهو نموذج للتكنوقراط وليس في تاريخه شبهة انشغال أو اشتغال بالسياسة- استقبل بعد قراره الغريب وفدا من السينمائيين، ونسي ما تغرق فيه البلاد من مشكلات اقتصادية وأمنية، وأنفق ساعة كاملة من الهراء، ثم قضت محكمة القضاء الإداري في 25 نوفمبر 2014 بوقف تنفيذ قرار رئيس الوزراء، وإعادة عرض الفيلم.
القضية لا تخص فيلما، وإنما الخيال السياسي، واستيعاب معنى “الدولة”. ويصعب على من تربّى في حضن نظام فاسد، وتشبّع بهواء فاسد، واقتات أفكارا فاسدة إنتاجا واستهلاكا أن يكتسب خيالا بأثر رجعي.
جابر عصفور وزير الثقافة في نهاية أيام حسني مبارك وما بعد 30 يونيو، وقد صمت على حرب وزيره حسني على الروايات الثلاث، نافس “الأستاذ” حين أعلن الحرب على الفيلم الأميركي “الخروج: آلهة وملوك”، بحجة إساءته لمصر القديمة، وسعيه إلى تهويد تاريخ البلاد. لا تختلف أفكار الفيلم كثيرا عن فيلم سيسي دي ميل “الوصايا العشر” 1956 الذي صور في مصر، ولم يدفع مصريا للتشكيك في تاريخ بلاده.
والآن لا يجدي منع عرض فيلم في فضاء مفتوح، وخيال طليق يتمتع به قراصنة معادون للعولمة المتوحشة، ويتيحون الأفلام فورا، ولا يعترفون بقرارات حكومية. كان يمكن تفادي الضجة الفارغة، بالبحث عن وسائل شارحة تثير فضول المشاهد، قبل دخول الفيلم أو في خروجه من القاعة، بما يحترم عقله ويدفعه لقراءات أخرى، بدلا من فرض الوصاية بالمنع، ثم تركه صيدا لتضليل الفيلم، واكتفاء موظف حكومي كبير بلعن ريدلي سكوت.
القضية لن تتوقف عند حدود “حلاوة روح”، أو “الخروج: آلهة وملوك”، بل ستطال الحريات الجامعية، ومصادرة الكتب، في سلوك سياسي هزلي، يفوض بمقتضاه رئيس الوزراء، المهندس إبراهيم محلب نفسه، بإصدار قرارات تخص الرقابة على المطبوعات.
لدينا في مصر “مشروع دولة”، ولكننا نصر على إجهاضه، وتفريغه من محتواه، مرة باسم الدين، وأخرى باسم الوطنية، غافلين عن “حقيقة” مهمة هي أن شعب 25 يناير نضج لدرجة كافية، ويرفض الوصاية الأبوية تحت أي مسمى، ويؤمن بأن الحرية لا تهدد الدين ولا “الدولة”، ولكن هذه الحرية تكفل إنهاء أدوار الكهنة، وتجاوز النفق الذي يراد لنا دخوله، لنظل قرونا في حروب طائفية، وعبث ينتهي بنا وقد بلغنا، بحمد الله، عام 1789.
(المصدر: العرب 2015-01-20)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews