أربع سنوات من القلق
أما وقد كادت تكتمل أربع سنوات على قيام ثورة 25 يناير2011، (وهي فترة ليست بالقصيرة في حياة الثورات)، فقد وجدت من الملائم ان أتتبع تاريخ ما طرأ علي من مشاعر القلق على مصير هذه الثورة، منذ أيامها الأولى وحتى الآن.
نعم، لقد بدأ قلقي (قلقنا؟) على هذه الثورة منذ بدأت الإضرابات والاعتصامات (التي سميت وقتها بالفئوية)، واستمر القلق يعلو ويهبط، وتتابعت عليّ مشاعر الأمل والإحباط على مدار السنوات الأربع التالية، وحتى قرأت منذ أيام قليلة عن احتمال بيع شركة بسكو مصر، (وهي أخبار كرهتها بشدة)، ثم قرأت عن النية في إصدار قانون لتنظيم الاستثمار في مصر (بما في ذلك الاستثمار الاجنبي) قبل إجراء الانتخابات وانعقاد البرلمان، وهي أخبار لم أسترح لها أيضا.
خلال هذه الفترة كانت أسماء طيبة لأشخاص أحبهم وأقدرهم، تظهر ثم تختفي، ثم تظهر من جديد، فينتابني الشعور بالفرح أو بالأسف، وكذلك تظهر ثم تختفي أسماء لأشخاص لا أثق بصدق وطنيتهم، فينتابني أيضا الشعور بالأسف لظهورهم ثم الفرح لاختفائهم.
وخلال هذا كله أتعجب من كثرة ما لا أفهمه. أقول لنفسي: إن السياسة في العصر الحديث وفي كل البلاد وليست في مصر وحدها (وعلى الرغم من كثرة استخدام كلمة الشفافية)، وتزداد فيها يوما بعد يوم كمية الأشياء غير المفهومة، فالأخبار التي تأتيك من كل مكان تخبرك مثلا بلقاءات بين شخصيات كبيرة ومهمة، ثم لا تقول لك أي شيء عما جرت مناقشته خلال هذه اللقاءات، وما انتهت إليه من اتفاقات.
يقال لك فقط شيء مثل "إنه تمت خلال هذه اللقاءات مباحثات ثنائية" (وهل يمكن أن تكون المحادثات بين شخصين غير ثنائية؟) أو يقال إنها تناولت التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط (وهل يمكن أن يعقد زعيمان من الشرق الأوسط اجتماعا طارئا لمناقشة تطورات الشرق الأقصى؟) وهكذا.
أخبار ليست في الحقيقة أخباراً، بل لا تزيد عما يسميه المناطقة (تحصيل حاصل)، أي مجرد لغو من القول لا نفهم فيه، لأنه يقول لك ما تعرفه من قبل بالضرورة.
نعم أعرف أن هذه هي طبيعة ما يسمى أخبارا في العصر الحديث، ولكني كنت أظن وآمل أنه عندما تحدث ثورة، لابد أن تختلف الأمور بعض الشيء، فتتحول شبه الأخبار إلى أخبار حقيقية، ولكن لم يحدث هذا خلال الأربع سنوات الماضية.
عندما بدأت الإضرابات والاعتصامات بعد أيام قليلة من سقوط الرئيس المخلوع، قلت لنفسي إن هذا مفهوم تماما بالنظر إلى كثرة المظالم التي تسبب فيها حكمه الذي طال نحو ثلاثين عاما. ولكن ما لم يكن مفهوما لديّ هو طريقة تعامل الممسكين الجدد بالسلطة مع هذه المطالبات.
كان من المنطقي، في نظري، أن تجاب بسرعة بعض هذه المطالبات التي لا شك في عدالتها وأهميتها لاستمرار مسيرة الاقتصاد القومي، ويؤجل البت في المطالبات الأخرى مع وعود لاشك في صدقها بالنظر فيها بجدية.
ولكن لم يحدث هذا ولا ذاك، أما مسلسل حرق الكنائس وأحداث الاعتداء على الأقباط، فكانت أشد مدعاة للقلق، ولكني أجلت البت فيما يمكن اعتباره تفسيرا معقولا لما يحدث إلى وقت لاحق.
كان اختيار أحمد شفيق لتشكيل حكومة جديد بعد سقوط حسني مبارك، يثير بعض الاستغراب، ولكن بلغ تفاؤلنا في ذلك الوقت درجة جعلتنا نعلق أهمية أكبر على كفاءته ونشاطه ونجاحه في إدارة ما أوكل إليه، من مسؤوليات قبل الثورة، مما علقناه من أهمية على قربه من مراكز السلطة في ذلك العهد، وعلى توجهاته السياسية، فلما صدرت منه بعض التعليقات الجارحة عن شباب الثورة، قل تعاطفي معه.
وتعاطفت مع الدكتور علاء الأسواني في حواره معي على شاشة التليفزيون الذي هاجم فيه أحمد شفيق بشدة كانت على الأرجح أحد أسباب تشكيل حكومة جديدة (هي حكومة عصام شرف)، سمعت بعد ذلك أن كثيرين لم تعجبهم درجة الحدة في طريقة مخاطبة علاء الأسواني لأحمد شفيق على أساس أن هذه ليست الطريقة الملائمة لمخاطبة رئيس للوزراء.
ولكني قلت لنفسي: "هل كانت هناك حقا حدة زائدة؟ ثم ألسنا في ثورة؟ هل هناك أي خطأ في قول الحق بصراحة، حتى لرئيس الوزراء، في ظروف نحاول فيها تصحيح كل ما حدث في الماضي من أخطاء؟"
فى ذلك الوقت قدم البعض اقتراحا معقولا جدا وأيده كثيرون وهو أن يتشكل مجلس رئاسي لحكم البلاد، يشترك فيه بعض أعضاء المجلس العسكري الذي كان يحكم البلاد بالفعل، وبعض الشخصيات من المدنيين المعروفين بالوطنية والتعاطف مع الثورة.
ولكن هذا الاقتراح لم يؤخذ به، بل ولم يحصل حتى على أي فرصة لمناقشته. ودخلنا بعد ذلك في عهد الحوارات التي لا تنتهي إلا لكي يبدأ حوار جديد، ولوحظ أن الشخصيات التي تدعى للحوار مع الممسكين بالسلطة، مزيج من الصالح والطالح، الموثوق به والأقل حظا من ثقة الناس.
كيف كان من الممكن أن نتصور أن تسفر هذه الحوارات عن أي شيء مفيد؟ وكيف كان من الممكن تجنب الشعور بالقلق من ذلك الوقت؟
أخذت الأمور تزداد تعقيدا بعد ذلك، كما اتخذت مسارا غريبا مليئا بالمنحنيات، المتجهة في اتجاهات متضادة، مما زاد البلبلة وقلل من القدرة على الفهم والتحليل.
حدث مثلا، عندما تطورت الأحداث إلى إجراء انتخابات لرئيس جديد للجمهورية في يونيو 2012، أن اكتشفنا أن الاسمين المتنافسين، أحدهما لرجل كان بلا شك جزءا أصيلا من العهد السابق الذي قامت الثورة لإسقاطه (أحمد شفيق مرة أخرى)، والآخر لرجل لم نكن تعرف عنه الكثير باستثناء كونه مرشحا من جماعة الإخوان المسلمين، التي لم تكن (في حدود فهمي) جزءا أصيلا من التيار الشعبي الذي أدى إلى إسقاط النظام.
كان من الواجب هنا أيضا، أن تستولي علينا شكوك قوية في أن ليس كل شيء على ما يرام، ومع ذلك ففي هذه المرة أيضا، غلبت علينا قوة الرغبة في مستقبل أفضل، ونفورنا من فكرة أن الثورة قد فشلت فإذا بكثيرين يشتركون في الانتخابات بحماس.
كانت سنة حكم الإخوان لا تقل غرابة عن السنة السابقة عليها. فقد انشغل الحكام الجدد بترسيخ إمساك الجماعة لمقاليد الأمور بدلا من أن يبدأوا بإدخال أي تغيير حقيقي في أحوال البلاد.
أفقدنا هذا أي ثقة في أن يتحقق أي هدف من أهداف الثورة في ظل حكم الإخوان.
ولكن ها نحن نرى عاما ونصف عام ينقضيان بعد سقوط حكم الإخوان، وما زلنا أبعد ما نكون عن تحقيق أي شعار من شعارات ثورة 25 يناير (خبز وحرية وعدالة اجتماعية).
فالخبز نجد قد نقص وزنه وساء حاله أو زاد سعره بشدة، والحرية أصابها تهديد خطير بصدور قانون التظاهر وشموله عددا كبيرا من شباب الثورة دون أن يرتكبوا عملا من أعمال العنف.
وقرارات كثيرة تتخذ أو يعلن عن قرب اتخاذها تتعارض مع هدف العدالة الاجتماعية، من الإلماح إلى خصخصة بعض الشركات المهمة لمحدودي الدخل، بل وإلى خصخصة بعض المستشفيات التي لا يستطيع الفقراء الاستغناء عنها.. الخ.
وفي أثناء ذلك يصدر حكم ببراءة الرئيس السابق وابنيه وبعض من كبار المسؤولين في عهده، كما تصدر قرارات بتعيين بعض المسؤولين المقربين من الرئيس المخلوع وأسرته في مناصب مهمة دون أن تعلن أسباب هذا التعيين.
كل هذا لابد أن يكون سببا حقيقيا للقلق، فلا عجب أن نسمع عن أعداد متزايدة من الشباب الذين كانوا في يناير 2011، شديدي الحماس للقيام بأي شيء لخدمة بلدهم، متخذي خطوات إيجابية للرحيل عن البلاد.
البيان 2015-01-05
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews