الإنسان يدمر نفسه
الوادي القريب الذي كان يتحول إلى سيل جارف في الشتاء بمياهه الحمراء من أثر الرسوبات الترابية الجبلية وتصفى مياهه بعد حين ويتحول إلى برك مياه عذبة، صار سيلاً من المياه السوداء والمجاري والنفايات القادمة من المستوطنات والمناطق الصناعية الاحتلالية . والحقل القريب الذي كنت أشهد فيه صراع ذكور الغزلان صيفاً صرت أشهد فيه مرور قطعان الخنازير البرية، وبينما كنا نحرص على تسييج حقولنا لحمايتها من الغزلان والأرانب البرية صرنا نقاوم الخنازير التي تأتي على المزروعات وتقتلع الأشجار وتهدم السلاسل الحجرية وصارت تأكل ثمار الزيتون ناهيك عن أي ثمر آخر . وعندما تسقط الأمطار التي انخفض معدلها بشكل مأساوي خلال العقدين الأخيرين تقوم الخنازير بأنيابها الحادة بحراثة الأرض بحثاً عن ديدان "أبو مغيط" التي تساعد على تحلل التربة وخصوبتها . والينينابيع على سفوح الجبال التي كانت تسد ظمأ القرى وتروي بساتين الخضار والفاكهة انخفضت مياهها أيضاً لقلة الأمطار وأصابها التلوث بفعل حفر المجاري وتلويث المياه الجوفية ولم تعد صالحة للشرب . والمبيدات الحشرية أتت على ملايين الطيور وبات طير الحسون حبيس الأقفاص بعد أن كانت أسرابه بعشرات الألوف، وتقلص عدد طيور الحجل وانقرضت الغزلان وحيوانات برية مثل النيص والغريري والأرانب البرية والنسور والصقور . وزاد عدد الطيور الجارحة ومنها البلبل الهندي الذي رغم أن صوته جميل إلا أنه طير جارح يأكل صغار الطيور من أعشاشها مثله مثل طير أبو زريق والغربان التي كانت فيما مضى طيوراً مهاجرة فإنها استقرت في القرى والجبال . وانقرضت الثعالب والذئاب والضباع التي كانت تخلق توازنا في الطبيعة وصارت اليد الطولى في الجبال للخنازير فقط .
وبينما تعمل مناشير المستوطنين وجرافاتهم في تقطيع وإبادة الأشجار مثل الزيتون واللوزيات انضم إليهم لصوص الحطب الذين يقتلعون أشجار الزيتون المعمرة لبيع حطبها "سعر الطن 200 دولار" أو اقتلاع أشجار كاملة بجذورها لبيعها بسعر 600 دولار للشجرة الواحدة حيث تعاد زراعتها في المستوطنات أو داخل الكيان "الإسرائيلي" .
الطبيعة الفلسطينية فقدت ألقها الذي كان واختفت نباتات تقليدية من الجبال كالمريمية والسعتر البري والعليق والزعرور وغيرها . ولم يعد بالإمكان الحد من تدهور الوضع البيئي لغياب الجهات القادرة على العمل حيث لا سيادة فلسطينية على الأرض، ولا توجد أجهزة فاعلة تمنع هذا القضم الزاحف لمكونات الطبيعة . كما أن الشكل الهندسي للبناء المنسجم مع سفوح الجبال بات من الماضي حيث إن الاستيطان لا يرضى إلا بقمم التلال والجبال ما غير الشكل الطبيعيى لها ومسح قمماً كاملة وجرف سفوحها ليحولها إلى مستوطنات وبنايات عالية ومصانع تنفث التلوث في الجو وتلقي بالنفايات الكيماوية في الأودية .
أصدق ما يتنبأ به العلماء من أن الكرة الأرضية مهددة بالانقراض نظراً لعبثية الإنسان في التعاطي مع البيئة والثروات الطبيعية والتغير المناخي . فالعلماء يؤكدون أن معدل الانقراض بلغ نسبة عالية للنباتات في العالم بنسبة 41 في المئة و26 في المئة بالنسبة إلى الثدييات و13 في المئة إلى الطيور ما يعني قرب انتهاء مظاهر الحياة على الأرض ربما خلال قرن واحد . ويؤكد التقرير الذي نشرته مجلة "نيتشر" العلمية أن 75 في المئة من مظاهر الحياة الحيوانية والنباتية في طريقه للانقراض بفعل ممارسات الإنسان، كالتلوث والصيد الجائر وتغير المناخ بسبب الاحتباس الحراري . فالفساد الذي يمارسه الإنسان في البحر والبر والجو بات يهدد صانعه أيضاً طبقاً للآية الكريمة "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" .
ولعل الصعوبات التي اصطدم بها مؤتمر "ليما" مؤخراً للحد من الاحتباس الحراري خير دليل على أن الإنسان لا يرغب في حماية كوكبه وحياته ومستقبله إلا بشق الأنفس طالما تعطى الأولوية لنهب الثروات وتلويث البيئة، والمشكلة الآن ليست في الاتفاق الذي توصل إليه مؤتمر ليما للحد من الاحتباس الحراري بل في آليات تنفيذه على الأرض وصولاً إلى تنفيذ اتفاق باريس بهذا الشأن الذي سيدخل حيز التنفيذ بعد خمس سنوات . فهل ينقذ الإنسان نفسه من نفسه؟ فإذا كنت كإنسان ألمس التغير المناخي وخراب البيئة وانقراض حيوانات ونباتات في حيز صغير لا يتجاوز الكيلو متر مربع الواحد حول بيتي فما بالنا عما يحدث في مناطق شاسعة غير مأهولة من غابات وجبال وسهول؟
الخليج 2014-12-23
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews