أوباما يبحث عما يعوِّض به فشله
مما لا شك فيه أن السياسات الداخلية والخارجية للرئيس الأمريكي باراك أوباما كانت وبالا عليه وعلى حزبه الديمقراطي، بدليل تحقيق خصومه الجمهوريين نصرا مظفرا عبر سيطرتهم أخيرا على مجلسي النواب والشيوخ لأول مرة منذ عام 2006، وهو الحدث الذي توقعت معه صحيفة "ديلي تليجراف" أن يتحول أوباما إلى "بطة عرجاء". فما بين صعوبة تمريره الآن لقراراته ذات الصلة بالشأن الداخلي، وتراجع التفاهمات الأمريكية الصينية حول الأمن والاستقرار في الشرق الأقصى، وعودة أجواء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، وتسديد الروس لصفعة قوية للأمريكيين في أوكرانيا، وتمرد الحليف التركي على الرغبات الأمريكية، وتردد أوباما في اتخاذ قرارات قوية في الوقت المناسب حيال الأوضاع المضطربة في الشرق الأوسط، ودخول العلاقات الأمريكية ـــ الإسرائيلية لأول مرة في أزمة معلنة، وامتعاض الحلفاء التقليديين لواشنطن في الشرق الأوسط من سياسات دعمها للمعارضين باسم تأسيس الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، صار أوباما يتسول شيئا يعوض به هذا الكم من الفشل الذي لم يسبق إليه أي زعيم أمريكي في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
وبطبيعة الحال فإن أوباما غير ملزم أو مرغم على إصلاح ما أفسده بتردده وتخاذله، لأنه ليس في وارد استمالة الناخب الأمريكي بعدما ترشح لفترتين رئاستين. لكنه من جهة أخرى هو حريص على ألا تدرس الأجيال الأمريكية القادمة في كتب التاريخ أن أول رئيس أسود للولايات المتحدة دخل البيت الأبيض وخرج منه بعد ثمانية أعوام دون تحقيق نجاح على الساحة العالمية يبرر به حصوله على جائزة نوبل للسلام التي منحت له في عام 2009 وسط جو من التشكيك والاعتراض. ومن هذا المنطلق يتحرك أوباما ــ كما لوحظ أخيرا ــ على جبهتين: أولاهما جبهة الملف النووي الإيراني الذي يحاول الرئيس ووزير خارجيته كيري استثمار كل ما بقي لواشنطن من علاقات ونفوذ إقليمي في كسر الجمود المخيم على هذا الملف كنتيجة لتعنت طهران ورغبتها في امتلاك ما يحقق لها الهيمنة الإقليمية الأحادية. أما الجبهة الثانية فتتمثل في إعادة تأهيل بورما (ماينمار)، ووضعها على قطار الديمقراطية الصحيحة بعد عقود من الديكتاتورية العسكرية الفجة، وسنوات من العنف الممنهج ضد قوى المعارضة السلمية بقيادة السيدة أونج سان سوكي الحائزة جائزة نوبل للسلام في عام 1991، وجائزة سخاروف للفكر الحر في عام 1990 من الاتحاد الأوروبي، وبعد أكثر من عامين على ممارسة سياسة الاضطهاد والتنكيل والتمييز والتهجير ضد أقلية الروهينجيا المسلمة (نحو 1.1 مليون نسمة، تشرد منهم أكثر من 140 ألفا بعد اشتباكات دامية مع الأغلبية البوذية).
والمعروف أن أوباما زار بورما الشهر الماضي للمشاركة في قمة رابطة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا بـ "آسيان"، لكن زيارته هذه اختلفت عن زيارة رسمية سابقة قام بها إلى هذا البلد في نوفمبر 2012. فعلى حين كانت زيارته الأولى بهدف إقناع عسكر بورما باتخاذ خطوات إصلاحية على الصعيدين السياسي والاقتصادي لإخراج بلدهم من عزلتها القاسية، فإن زيارته الأخيرة، وهو في طريقه إلى مدينة بريسبن الأسترالية لحضور قمة العشرين، جاءت في أعقاب تصريح خطير لزعيمة المعارضة سان سو كي أعربت فيه عن تشاؤمها بنجاح العملية الديمقراطية في بلادها، واصفة إياها بالمتعثرة، مضيفة أن الحكومة الأمريكية تبالغ في تفاؤلها حيال الإصلاح السياسي في بورما، ومتحدية أي شخص يستطيع إثبات العكس.
ومعنى كلام سان سو كي أن إدارة أوباما فشلت حتى في مساعيها مع حكام رانجون لبدء صفحة جديدة مع شعبهم، والدليل هو استمرار اضطهادهم أقلية الروهينجيا، وعودتهم إلى تضييقهم الخناق على الصحافيين من بعد فترة قصيرة من التعامل المتحضر معهم بدليل تعذيبهم حتى الموت للصحافي الحر "كو بار كي" الذي كان يعمل في الماضي حارسا شخصيا لزعيمة المعارضة، واعتقالهم ثلاثة صحافيين بعد كشفهم النقاب عن صفقة سرية حول برنامج تسليح عقده المجلس العسكري الحاكم مع النظام الستاليني الحاكم في كوريا الشمالية. هذا ناهيك عن تمسك جنرالات النظام العسكري الحاكم حتى الآن بمبدأ مقاومة تغيير بند دستوري يحول دون ترشح سان سو كي للانتخابات الرئاسية المقبلة المزمع إجراؤها في عام 2015 على خلفية اقترانها في الماضي برجل يحمل جنسية أجنبية.
ولكي يحقق أوباما لنفسه شعبية في الخارج بعد تدهور شعبيته في الداخل (طبقا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها قناة سي بي إس وصحيفة "نيويورك تايمز" في أكتوبر المنصرم انخفضت شعبيته إلى ما دون 40 في المائة) خصص وقتا للاجتماع بزعيمة المعارضة البورمية أطول من ذلك الذي خصصه لزعيم المجلس العسكري البورمي الجنرال تين سين، كما انتقد بشدة أمام الصحافيين المادة الدستورية التي تستبعد شخصا من السباق الرئاسي على خلفية اقترانه بأجنبي، واستنكر عمليات التمييز ضد أقلية الروهينجيا أو أي أقلية أخرى، داعيا إلى إعطائها حقوقا متساوية.
وقبل وجود أوباما في بورما كان في زيارة للصين حيث حاول تحقيق اختراق في العلاقات الأمريكية ـــ الصينية التي تخيم عليها ظلال الشك والتنافس وانعدام الثقة. فلم يستطع سوى تحقيق إنجاز وحيد تمثل في توقيع اتفاق بين البلدين، اللذين يعتبران الأكثر تلويثا لجو الأرض بغاز ثاني أوكسيد الكربون، حول الحد من ظاهرة التغير المناخي من خلال تخفيض الانبعاثات الكربونية الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري. لكن حتى هذه الاتفاقية شابها الغموض، فلم تتضمن مثلا أدوات تنفيذها، وخلت من تحديد مدى زمني لإنجاز ما تم الاتفاق عليه، الأمر الذي جعل البعض يصفها بالاتفاقية الرمزية الهادفة إلى حفظ ماء وجه الرئيس الأمريكي.
الاقتصادية 2014-12-07
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews