إنخفاض أسعار النفط يُنقذ الإقتصاد العالمي
لا شك أنّ البترول (Crude Oil) له تداعيات هائلة في الاقتصاد. ويعود فضل هذه التداعيات إلى العبارة التي اختصر فيها الاقتصادي الشهير بول فرانكل دور البترول بقوله إن «البترول هو سائل».
هذا السائل المركّز هو سائل سهل الاستخراج، ويُمكن نقله وتخزينه واستعماله بسهولة كبيرة على عكس الفحم الذي يصعب استخراجه واستخدامه، والكهرباء التي يصعب تخزينها، والغاز الذي يصعب نقله وتخزينه بسبب حجمه. وهذه السهولة في التعاطي مع البترول دفعت به إلى مرتبة ودور كبير في الحياة الاقتصادية عبر إعطاء البترول دوراً استراتيجياً يدخل في التوازن الحراري العالمي، وبالتالي التوازن الجيوسياسي العالمي.
البترول في الاقتصاد
في ثلاثينات القرن الماضي، كان البترول محور اهتمام الدول الكبرى التي رأت فيه أهمية عسكرية كبرى، خصوصاً خلال الحرب العالمية الأولى، حتى أنّ بعض الدول اعتقدت أنّ البترول هو بهدف الحرب قبل كل شيء.
وبُعيد الحرب العالمية الثانية، لم يخف تعلّق العالم بالبترول، بل أخذ استعماله بالتمدد في أنحاء العالم أجمع على رغم الصدمة البترولية في العام 1973 - على أثر الحرب العربية الإسرائيلية - وعلى رغم الثورة الإسلامية في إيران، والتي تحمل لوحدها مسؤولية رفع الأسعار بنسبة عشرة أضعاف. واليوم، وبعد كل المحاولات لتخفيف التعلق بهذه الطاقة، يبقى البترول أوّل مصدر للطاقة حيث أنّ 35% من الطاقة العالمية مُولّدة من البترول.
وكنتيجة لهذا التعلّق، أخذت البنية التحتية تتعلق بشكل بنيوي بالبترول، فمثلاً يعتمد قطاع النقل بشكل شبه أحادي على البترول، وكل الدول التي تشهد تطوراً اقتصادياً نرى أن معظم القطاعات فيها أخذت منحى باتجاه البترول، كتدفئة المنازل والزراعة والصناعة... وهذا الامر جعل من تجارة البترول الأولى عالمياً من ناحية الحجم والقيمة.
فعلى سبيل المثال، يبلغ معدل التبادل اليومي للبترول ما يزيد عن 6,5 مليار دولار يومياً مقارنة بسوق العملات الذي تبلغ فيه قيمة العمليات 3 مليار دولار يومياً. وهذا يعني أن اقتصاد الدول المُتطورة، والذي يُشكل أكثر من 60% من الاقتصاد العالمي، أصبح رهينة للبترول لكن ليس بالمعنى السيئ.
الخريطة النفطية
كما نلحظ ممّا سبق، أنّ الاقتصاد المُتطور مبنيّ بشكل أساسي على عاملين: البترول والاستيدان. وإذا كان الأول هو محرك الاقتصاد، فالعامل الثاني يلعب دور الرافعة. ونموذج الاقتصاد الحديث اليوم مبني على هذه المعادلة، أي الحصول على البترول لتشغيل ماكينة اقتصادية تمّ بناؤها بواسطة أموال مُقترضة من الأسواق.
هذا الأمر يدفعنا إلى القول إنه مع شراء البترول أو بيعه، نشتري ونبيع الأمان الاقتصادي والعسكري، والنمو الصناعي، والتطور الاقتصادي... وهذا ما يجعل من البترول مادة حيوية واستراتيجية مسؤولة عن معظم الحروب التي حصلت من اكتشافها في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في هذا الإطار، تتمتع الدول التي تمتلك نفطاً في أرضها بنعمة كبيرة، إذ يسمح بيع البترول بإدخال أموال طائلة على شكل نقد ضمن إطار زمني متكرر، لأنّ استخدام البترول هو عمل متكرر.أمّا الدول التي تستهلك البترول، فهي دول تتمتع باقتصادات متطورة أو في طور النمو.
وبالنظر إلى توزيع إنتاج البترول العالمي واستهلاكه، نرى أنّ العالم مقسموم إلى قطبين:
- قطب مستهلك ويضم الدول المتطورة إقتصادياً كالولايات المتحدة الأميركية، الإتحاد الأوروبي، بريطانيا، أوستراليا...
- وقطب منتج ويضم دول الخليج العربي (أكثر من 60% من الإحتياط العالمي)، روسيا، إيران، فنزويلا، ليبيا...
ومقارنة اقتصاديات دول القطبين يسمح لنا بالاستنتاج التالي:
أولاً: إنّ اقتصاديات القطب المستهلك هي اقتصاديات حديثة مبنية على التطور والأبحاث. ويُمكن الجزم أنّ الثروات في هذه الاقتصاديات، والتي تتمتع بحجم كبير، مبنية على العدل من ناحية توزيع الثروات. وعدد الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تُعتبر الأداة الأولى لمحاربة الفقر في العالم كبير جداً في هذه الاقتصاديات، حيث تحوي الولايات المتحدة الأميركية، مثلاً، على أكثر من 30 مليون شركة صغيرة ومُتوسطة الحجم. وهذه الشركات التي تتعامل مع التكنولوجيا في إنتاجها، تستهلك إلى حد كبير البترول.
ثانياً: إنّ اقتصاديات القطب المنتج للبترول هي اقتصاديات غير متطورة، مع العلم أنّ هناك أموالاً نقدية هائلة تدخل إلى خزينة هذه الدول والتي تذهب إلى عدد محدود من اللاعبين الاقتصاديين، ما يعني حصر الأرباح بعدد ضئيل من المستثمرين الذي يستثمرونه عادة في الدول المتطورة عبر الصناديق السيادية.
ثالثاً: إنّ الأضرار الناتجة عن ارتفاع سعر البترول هي أكثر بكثير من الأضرار الناتجة عن انخفاضه. فارتفاع 15 دولاراً أميركياً في فترة قصيرة قد يقضي على اقتصاديات متطورة عدة لها وزنها الاقتصادي العالمي. في حين أنّ انخفاض 25% في أسعار البترول سيؤدي إلى عجز في موازنة الدول المنتجة للبترول بقيمة 10% من ناتجها المحلي الإجمالي.
رابعاً: إنّ الحديث عن خسائر وعجز في موازنات الدول المُنتجة للبترول هو صحيح. لكنّ تصوير هذا العجز بأنه سيقضي على اقتصاديات الدول هو أمر مبالغ فيه، والسبب يعود إلى أن بعض البلدان، كروسيا، تفتقد بشدة إلى الاستثمارت منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي. وهذا يعني أنه وبسبب عدم وجود ماكينة إقتصادية فعّالة، فإنّ هذه الاقتصاديات ستتراجع لتعود وتتعلّق بالاستثمارات الأجنبية.
وهذا الأمر هو كحلقة مُفرغة، فمثلاً إذا أخذنا حالة الصين، ثاني قوة اقتصادية في العالم، والتي تتعلّق بشكل شبه أحادي بالنمو الاقتصادي في الدول المُتطورة. ومع الركود الناتج عن الأزمة الاقتصادية العالمية، فقد قلّ الطلب على البضائع الصينية التي لا تجد سوقاً لها في الداخل مع شعب يعيش أكثر من نصفه تحت عتبة الفقر.
من هنا لا يُمكن القول إنّ انخفاض أسعار البترول سيضرب الاقتصاد العالمي، لأنه على العكس سيقوّم هذا الانخفاض بدفع الاقتصاد العالمي عبر تخفيض الكلفة، خصوصاً أنّ الاستيدان أصبح غير حرّ مع ارتفاع الديون السيادية وعجز الدول المُتطورة عن سداد هذه الديون، ما يترك هامشاً واحداً لتحفيز النمو عبر خفض كلفة البترول.
(المصدر: الجمهورية اللبنانية 2014-11-08)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews