اختيار القيادات العليا الحكومية .. لعمل ماذا؟
مهمة القيادة الإدارية هي إحداث التغيير المطلوب. والمطلوب مسألة نسبية تتفاوت بين توجه محافظ ينشد التغيير ولكن بنهج تراكمي تدريجي بهدف الحفاظ والتأكيد على استمرارية الوضع الراهن ليكون التطوير في الشكل الإجرائي أكثر منه في المضمون والأسس، وهناك تغيير جذري يكون فيه التحول إلى وضع جديد مغايرا للمعتاد بنهج يطال الفلسفة والتوجه الاستراتيجي والوسائل الإدارية والثقافة التنظيمية. ويسيطر النهج المحافظ على العمل الحكومي بحكم طبيعته العمومية والاعتماد على الإجراءات البيروقراطية الداخلية في صنع القرار لعدم وجود مؤشرات كمية لقياس إنتاجيته كما هو الحال في منظمات الأعمال الخاصة التي يرتبط مستوى أدائها بمؤشر الربحية ووجود أسعار تعكس مستوى الطلب وقيمة المنتج أو الخدمة في المجتمع.
إن التحدي الذي يواجه القيادات الإدارية الحكومية هو إرضاء جميع المواطنين على الرغم من التفاوت والتباين في الأذواق والتفضيلات فيما بينهم، وفي ذات الوقت مطالبون بتحقيق الكفاءة والفاعلية. وبينما تمثل المنافسة الدافع للقطاع الخاص نحو التطوير وتحقيق رضا المستهلكين تقع القيادات الحكومية تحت طائلة ضغوط الرأي العام المحلي لتحقيق المصلحة العامة بمثالية وهو أمر صعب المنال ولم يكن مستحيلا، لأنه لا يمكن تحقيق رضا فئة من المجتمع دون أن يكون ذلك على حساب فئة أخرى. والسبيل هو تحقيق الحد الأدنى من الرضا ما يترجم إلى الحد الأدنى من الإنتاجية، ولذا لا تستطيع الأجهزة الحكومية مهما بلغت من القدرة أن تحقق ذات المستوى من الإنتاجية كما القطاع الخاص الذي يستمتع بخاصية التعامل مع فئة محددة من المستهلكين ولهدف واحد هو الربحية. وعندما تكون بيئة العمل الحكومي غير تنافسية أي ليس هناك فصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتتفرد الأجهزة التنفيذية الحكومية بصناعة القرار العام لا يعكس القرار الاختيار العام للمواطنين وبالتالي لا تكون السلع والخدمات العامة بالكمية والنوعية والجودة والتكلفة المطلوبة اجتماعيا.
إن الفصل بين السلطات يحقق الرقابة المتوازنة بحيث لا تتفرد سلطة بعملية صنع القرار. فالقرار الحكومي ليس قرارا فنيا بحتا يعتمد فقط على الخبرات والتخصصات العلمية وإنما يتضمن أيضا جانبا سياسيا اجتماعيا. ذلك أن الخدمة العامة تقدم لعموم الناس، وبالتالي يلزم أن يكون لهم رأي فيما يحتاجونه ويفضلونه تماما كعملاء المؤسسات الخاصة. إلا أن الناظر في الوضع الإداري السعودي يجد أن مفهوم الخدمات الحكومية هو في اتجاه واحد بمعنى الحكومة تقدم الخدمة والمواطن يستخدمها. والسبب أن هناك اعتقادا خاطئا في أن التكنوقراط هم أقدر على معرفة المصلحة العامة من عموم الناس. إلا أن ذلك أدى في بعض الأحيان إلى تقديم خدمات أقل من المطلوب أو أكثر من المطلوب أو غير مطلوبة اجتماعيا أصلا أو ربما كان لها تأثير سلبي على العموم. وهذه تكلفة اجتماعية كبيرة خاصة أن بعض المشاريع والخدمات الحكومية كبيرة وباهظة التكلفة مثل المطارات والمستشفيات والطرق وغيرها وأن أي خطأ في التصميم والتخطيط لا يمكن التراجع عنه وتصحيحه ويبقى تأثيرها لمدى طويل. ولذا لا يمكن الاستمرار على ذات النهج الإداري الذي يمنح الحصانة الكاملة للقياديين ليفعلوا ما يشاؤون وبنظرة انفرادية دون مساءلة ومحاسبة نيابية.
وعلى الرغم من وجود مجالس نيابية (الشورى، المناطق، المحلية، والبلدية) إلا أنها ضعيفة الصلاحيات لا تتمتع بسلطة التوجيه والمساءلة والمحاسبة. هذا الوضع الإداري الحكومي أدى إلى ضعف في الأداء فكانت الحاجة إلى تبني سياسات للإصلاح الإداري، إلا أن الإصلاح الإداري ذاته يركز على تطوير الإجراءات وليس إصلاحا جذريا لنظام الإدارة العامة الكلي بما في ذلك الفصل بين السلطات ومساءلة الأجهزة الحكومية ومحاسبتها وتوزيع السلطات بين الهيئات المركزية والمحلية. هذا الوضع أدى إلى الركود والجمود والتراخي الإداري، وفي ظل هذه البيئة الإدارية تحول القياديون إلى مديرين همهم إنهاء معاملات وتطوير إجراءات العمل حسب ما يرونه.
إن أخطر شيء على العمل الإداري الحكومي أن تقوم القيادات الإدارية العليا بأدوار القيادات في الإدارات الوسطى التي لا تتعدى تنفيذ الإجراءات الروتينية دون النظر للمستقبل والتخطيط له وجلب أفكار إبداعية. إن القيادات العليا تتطلب مهارات تحليلية وقدرات ذهنية على فهم المتغيرات وتكوين صورة مستقبلية وما ينبغي عمله وهذه ميزات لا يملكها إلا قلة ولذا يجنح بعض القياديين في المراتب العليا ممن لا يملكون هذه المهارات إلى إغراق أنفسهم بمهام الإدارة الوسطى متبنين نهج المركزية ليمنحهم ذلك شعورا زائفا بالإنتاجية والتميز بالأداء. في كثير من الأحيان يصعب على الكثير من تلك القيادات الإدارية التخلي عن منطقة الراحة فالروتين ليس فقط يمنحهم القوة والسيطرة ولكن الهروب من المسؤولية وعدم محاسبتهم على التأثير النهائي لقراراتهم كما أن العمل الروتيني لا يستدعي جهدا فكريا وإبداعا. هذا النوع من القياديين لديه قدرة على التنفيذ وتفانٍ في تطبيق الإجراءات الإدارية بطريقته الخاصة لأنها مع مرور الوقت تصبح جزءا من ذاته. إن اختيار القيادات يسبقه اختيار التوجه العام للسياسة الحكومية، فإما تطوير جزئي متحفظ أو تطوير جذري جريء. فالتوجه وطبيعة العمل تملي نوعية وأسلوب القيادة المطلوبة. ولذا يستوجب أولا وقبل كل شيء وضع الفلسفة العامة والتوجه الاستراتيجي للمشروع الوطني أي كان ومن ثم اختيار القيادات التي تناسبه. وإذا كان التوجه نحو إحداث تغيير جذري وتطلع لمستقبل أفضل يتطلب ذلك قيادات من نوع خاص، قيادات لديها قدرات ذهنية وفنية وإبداعية وتؤمن بقيم المشروع التطويري وتملك حس البحث عن الأفضل والحماس والهمة وتضيف أفكارا إبداعية، إضافة إلى الذكاء الاجتماعي والرغبة مع القدرة على احتواء آراء الآخرين والسعي لتحقيق مطالبهم بأفضل طريقة ممكنة. لكن استقطاب هذه القيادات والاستفادة منها والإبقاء عليها يتطلب بيئة عمل منفتحة وثقافة تنظيمية تسمح بالإفصاح عن المشاعر والأفكار ومساحة كبيرة من الاتصال ومناقشة ما لم يكن قابلا للنقاش. وفي ظل المستجدات والتغيرات البيئية المتسارعة لم يعد التنظيم البيروقراطي وحده قادرا على استيعابها بحكم طبيعته المنغلقة، إضافة إلى أنه ليس من المقبول أن تجتمع في البيروقراطيات العامة سلطتا التشريع والتنفيذ، فذلك يمنحها سلطة مطلقة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. وكان لا بد من إعادة النظر بالنظام الإداري الحكومي بمنح سلطات أكبر للمجالس النيابية التشريعية، فهي الوحيدة المؤهلة لتعريف وحماية المصلحة العامة والاستجابة لمطالب المواطنين والتأكد من تحقيقها على الوجه المطلوب، مثلما البيروقراطيات العامة أكثر قدرة على التنفيذ.
( الاقتصادية 2014-08-31 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews