دبلوماسية القمة الناعمة تفرض ألمانيا على خريطة القوى العظمى
عندما يتحدث فلاديمير بوتين إلى أنجيلا ميركل بالهاتف، تجدهما يتنقلان أثناء الحديث بين الألمانية والروسية. كلاهما يتحدثان كلتا اللغتين بطلاقة، لدرجة أنهما يصححان المترجمين الذين عادة ما يكونون على الخط، للمساعدة في النقاشات الرسمية.
ولأن المستشارة الألمانية، ميركل، تعلمت الروسية خلال نشأتها في ألمانيا الشرقية الشيوعية، فهي تعرف شيئاً عن ماضي بوتين السوفياتي. ولأن بوتين أتقن لغته الألمانية من خلال عمله في المخابرات السوفياتية، أثناء عمله في درسدن، فإن الرئيس الروسي يفهم أيضاً جذور ميركل في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية سابقاً).
هذا التآلف الشخصي لم يمنع حدوث أسوأ أزمة روسية - ألمانية في العلاقات منذ انتهاء الحرب الباردة.
قرار ميركل في الشهر الماضي بمساندة عقوبات شملت قطاعات واسعة ضد روسيا رداً على إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية في الرحلة رقم إم إتش 17، شكل علامة مهمة على انهيار طريقة التعاون التي استمرت عقوداً طويلة مع روسيا.
وقد عبرت عن ذلك مجلة "دير شبيجل" الألمانية بقولها: "حطام طائرة إم إتش 17 هو أيضاً حطام للدبلوماسية".
تثير التطورات الأخيرة أسئلة صعبة حول مستقبل علاقات ألمانيا مع روسيا وحلفائها الغربيين، وطريقتها الهادئة والمعقولة في سياستها الخارجية.
يقول جوزيف جانينج، وهو زميل أول في مجلس مؤسسة أبحاث العلاقات الخارجية الأوروبية: "هذه نقطة تحول مهمة بالنسبة لبرلين، وقد يحتاج الأمر إلى جيل جديد في موسكو، قبل أن تعود علاقات الصداقة إلى مجراها من جديد".
لعبت برلين دوراً رئيسياً غير مسبوق في رد الغرب على الأزمة، حيث جعلت ميركل نفسها في الأشهر الستة الأخيرة المركز الرئيسي للاتصال مع بوتين، وذلك من خلال إجراء أكثر من 30 مكالمة هاتفية متزايدة في حدتها وخيبة أملها.
بعد أن حافظت ألمانيا على موقف تميز بعدم الظهور علناً في السياسة العالمية، في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، ها هي الآن تلعب في السنوات الـ 25 الماضية دوراً متزايداً هو علامة على وضعها كقوة اقتصادية عظمى.
بيد أن تدخلاتها السابقة في دول مثل يوغوسلافيا السابقة وأفغانستان، أخذت شكل مساهمات في مهام قادتها أو تعاونت في قيادتها مع شركاء غربيين، وهم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا.
أما هذه المرة، فقد كانت برلين في مركز القيادة. لقد تصرفت على هذا الشكل بسبب روابطها السياسية الطويلة مع موسكو، وعلاقتها الاقتصادية الواسعة وقربها من أوروبا الشرقية.
كما وقعت هذه الأزمة، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا مشغولة بنقاط ساخنة عالمية أخرى. ونذكر بهذا الصدد قول هنري كسينجر في هذه السنة، وهو الدبلوماسي الأمريكي المخضرم المولود في ألمانيا: "ألمانيا محكوم عليها بطريقة ما، أن تلعب دوراً متزايداً مهماً [في العالم]".
تفضل ميركل معاناة الصداع المألوف من سياسات الاتحاد الأوروبي على التفاوض مع الزعيم الروسي، الرجل الذي خرق القانون الدولي بضمه شبه جزير القرم إلى بلده. كانت قد اشتكت ميركل إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما من أن بوتين كان يعيش "في عالمه الخاص به"، ولكنها أرادت من البداية حماية المصالح الألمانية، وضمان ألا تكون ردود الأفعال الغربية خاضعة للروح القتالية الأمريكية، التي يمكن أن تفاقم من الخلاف.
بعد العقوبات الأخيرة يصبح السؤال المباشر بالنسبة لميركل هو ماذا سيحدث بعد ذلك؟ خصوصاً رد فعل الكرملين وأية مطالب يمكن أن تقدمها أمريكا بفرض ردود مضادة قاسية.
وفي غياب أي رد عسكري غربي على موسكو- وهو الذي أكدت على استبعاده - جادلت ميركل مراراً بأن المفاوضات هي السبيل الوحيدة الموجودة في المرحلة المقبلة. وقالت بعد كارثة رحلة إم إتش 17 : "أظهرت لنا هذه الأحداث مرة أخرى، أن ما نحتاج إليه هو الحل السياسي".
من المرجح أن تلتزم ميركل بالحل الوسط، وأن تحاول الإبقاء على نفوذ برلين بالعمل كنقطة ارتكاز بين الصقور الذين تتزعمهم الولايات المتحدة وبولندا والمملكة المتحدة، والحمائم من أمثال إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
على أن طريقتها الجديدة المتشددة يمكن استدامتها، فقد صدمت كارثة رحلة إم إتش 17 الألمان، كما فعلت مع آخرين حول العالم. عملت الصور التي عرضت للانفصاليين الموالين للروس وهم يقصرون في حماية الموتى – وحتى سرقة الضحايا - على تغيير الرأي العام.
كما شكلت إجماعاً سياسياً في ألمانيا وفي دول الاتحاد الأوروبي، على ضرورة الإقدام على رد شديد على ذلك.
يمكن ألا يدوم مثل هذا الإجماع، إذ توجد خلافات بين دول الاتحاد الأوروبي على كيفية تنفيذ ذلك، فمثلاً يشتكي الكثير من الألمان من أن إجراءات صفقة بيع السفن الحربية الفرنسية ميسترال بمبلغ 1.2 مليار يورو إلى روسيا، ما زالت مستمرة.
ولأن إجراءات البيع يجب مراجعتها كل ستة أشهر، فمن الممكن أن تحدث خلافات بسيطة أثناء ذلك، لكن ميركل ستتعامل مع الأشياء حال حدوثها. أي حسب شعارها، "خطوة بخطوة".
تتكشف التطورات الأخيرة عل خلفية تحولات زلزالية تحدث في نظرة ألمانيا إلى روسيا، إذ منذ تبني ألمانيا سياسة أوستبوليتيك (سياسة الانفتاح على شرقي أوروبا بما الاتحاد السوفياتي سابقاً) أيام الحرب الباردة، رأت ألمانيا نفسها أقرب الشركاء الغربيين لموسكو.
ولأن ألمانيا تعرف أن أمنها مضمون من قبل حلف الناتو والعضوية في الاتحاد الأوروبي، فقد اقترب القادة الألمان من الكرملين وضمنوا لأنفسهم روابط اقتصادية قوية معه، تمثلت في بناء أنبوب الغاز السوفياتي - الألماني.
يعتز القادة الألمان بهذا التعاون، وخاصة بعد أن ساعد هذا في فتح الطريق أمام إعادة توحيد ألمانيا. وفعل الشيء نفسه السياسيون الديمقراطيون الاجتماعيون الألمان، الذين يكرهون اعتماد ألمانيا على الولايات المتحدة.
بالنسبة للبعض، فإن التعاطف مع روسيا يعكس تقدير تضحيات الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة للبعض الآخر كان لذلك علاقة بالمشاعر المناوئة للولايات المتحدة، التي أبرزتها المظاهرات ضد الحرب في فيتنام، ونشر الصواريخ الأمريكية كروز، والاحتجاج على حرب العراق.
جلبت علاقات ألمانيا مع روسيا منافع اقتصادية لها، بحيث أصبحت ألمانيا أكبر مصدّر في الغرب إلى روسيا، وأصبحت روسيا تورّد ثلث حاجة ألمانيا من الغاز والنفط. اختلط المال بالطاقة، مع حدوث خلافات أحياناً على ذلك.
كان المستشار الألماني السابق، جيرهارد شرودر قد دعم، أثناء وجوده في منصبه، خط شركة نورد ستريم، وهو خط أنابيب بحر البلطيق المثير للجدل، الذي تديره شركة غازبروم الروسية.
وقد أصبح شرودر بعد مغادرته منصبه في عام 2005 رئيساً لشركة نورد ستريم. كما احتفل شرودر بعيد ميلاده السبعين، في حفلة باذخة أقيمت على شرفه في مدينة بطرسبيرج الروسية. كان المضيف هو شركة غازبروم، وضيف الشرف في الحفل هو بوتين.
عندما تولت ميركل منصبها للمرة الثالثة في رئاسة الائتلاف الحكومي أواخر العام الماضي، سعى وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير، المدير السابق لمكتب موظفي شرودر، إلى تحسين العلاقات مع روسيا.
ومنذ أُعيد انتخاب بوتين رئيساً في عام 2012، حلت محل الرغبة السابقة للرئيس بالتعاون مع الغرب، أجندة تحكمها اعتبارات قومية. كانت أولويته هي استعادة نفوذ روسيا على غرار الذي كان للاتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً في أوكرانيا.
مع اشتداد الأزمة، بدأت آمال الألمان في التقارب بالتحول إلى فقدان عميق للثقة. يقول جانينغ من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "أصبح المتعاطفون مع روسيا صامتين، وقد تملكهم إحساس قريب من اليأس والقنوط."
وعندما سُئل فيليب ميسفيلدر، المتحدث باسم البرلمان الألماني للشؤون السياسية الخارجية في الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه ميركل، عما إذا كان بإمكان برلين استعادة روابطها بعيدة المدى مع روسيا مرة أخرى، أجاب: "نعم، ولكن ليس دون حدوث تغيرات سياسية عجيبة في روسيا".
أما الشركات الألمانية فهي في ورطة، فقد شكّل قادة الشركات الكبرى في البداية لوبي لمواجهة العقوبات بشدة. قال المجلس الشرقي (ذي إيستيرن كوميتي) المتنفذ الذي يمثل شركات ناشطة في أوروبا الشرقية، إن25 ألفاً من الوظائف الألمانية أصبحت الآن في خطر، ولكن هذا المجلس خفف من معارضته بعد ما سماه: "كارثة" الرحلة إم إتش 17.
يضع الرؤساء التنفيذيون في حساباتهم أن السوق الروسية على أية حال هي في حالة تراجع، بسبب ما يرونه من نظام أوتوقراطي فاسد يخنق الاقتصاد. ربما لا تؤذي العقوبات الشركات كثيراً، ما عدا المستهدفة منها مباشرة بالحظر، مثل صانعي التجهيزات النفطية ذات التكنولوجيا العالية. وتعتبر السوق الروسية في المرتبة الـ 11 بالنسبة لأكبر أسواق التصدير الألمانية.
مع ذلك، ما زال المديرون التنفيذيون يأملون في العودة ثانية لأعمالهم. يقول إيكهارد كورديس، رئيس مؤسسة إيستيرن كوميتي: "إن تحديد زمن العقوبات يعتبر إشارة مهمة، على أن الحوار سيتم الحفاظ عليه".
داخل الاتحاد الأوروبي، عزز هذا الصراع من سيطرة برلين على دول الاتحاد الأوروبي. فقد كتب تشارلز جرانت مدير مركز الإصلاحات الأوروبية، المؤسسة الفكرية اللندنية، أن ألمانيا أصبحت، أثناء أزمة منطقة اليورو "قائداً بلا منازع" للسياسة الاقتصادية.
وقال: "في السياسة الخارجية والأمنية، وضعت كل من بريطانيا وفرنسا أجندة دول الاتحاد الأوروبي، ولكن أزمة أوكرانيا، يمكن أن تسمح لألمانيا بالقيادة في هذا المجال أيضاً".
مع تفكير المملكة المتحدة بجدية للخروج من الاتحاد الأوروبي، ووضع فرنسا العالقة في ركود اقتصادي، يبدو أن التفوق الألماني هو الذي سيدوم.
بالنسبة للولايات المتحدة، انفجرت أزمة أوكرانيا وسط خلافات زاد منها كشف المخبر الداخلي إدوارد سنودِن عن عمليات تجسس واسعة، شملت التنصت على مكالمات ميركل على هاتفها الخلوي. وفي ذلك الوقت صعبت هذه القضية من التعامل مع أزمة أوكرانيا، لأن الجمهور الألماني أصبح غاضباً بشدة من هذا الهجوم على الخصوصية.
حقيقة توحد الغرب في الرد على الأزمة، عزز من وجهة نظر برلين، حول التحالف عبر الأطلنطي، فقد قالت ميركل الماضي إنه من "المهم العمل سوية وعن قرب وبالتضامن" مع الولايات المتحدة، بخصوص المشاكل العالمية مثل إيران".
يعتمد الكثير في معالجة هذه المشكلة على حلف النيتو الذي يعقد مؤتمر قمة مع إعادة إدراج كتلة دول شرق أوروبا على أجندة أعماله، بعد سنوات، لم يعد يُنظر فيها إلى روسيا على أنها تشكل أي تهديد.
سيكون الامتحان الحاسم هو استجابة التحالف لدعوة من دول شرق أوروبا، خاصة من بولندا، لزيادة الوجود العسكري المحلي في هذه الدول. الولايات المتحدة تؤيد ذلك، إلا أن برلين قلقة من إثارة المزيد من غضب الكرملين.
أثناء ذلك، تعمل هذه الأزمة على امتحان قدرة ألمانيا، على التغلب على ترددها في الانخراط في الجغرافية السياسية العالمية، وهو القيد الذي فرضته على نفسها، والذي يعود إلى التوسع النازي الكارثي في أوروبا.
واجهت برلين مثل هذه الضغوط من قبل، حيث إنها أرسلت قواتها إلى الخارج في البوسنة في 1995، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي كوسوفو انضمت إلى عمليات قصف صربيا، في أول عمل هجومي منذ عام 1945، وفي أفغانستان نشرت خمسة آلاف رجل، في أكبر حملة عسكرية ترسلها للخارج منذ عام 1945.
ومع ذلك تبقى ألمانيا مساهماً متردداً. يقول ثوماس باولسون، المدير الدولي في المركز البحثي كوربر- شتيفتانغ: "أصبحت ألمانيا بحكم الواقع في المقدمة [حول أزمة أوكرانيا] ... وليس بسبب قرار اتخذ لتكون قائدة لذلك".
لم تمنع سياسة قول القليل في المواجهات الدولية ألمانيا من التقدم في مصالحها، كما قال جون كورنبلام، السفير الأمريكي السابق في ألمانيا: "إن الفكرة القائلة إن ألمانيا قزم سياسي مجرد خرافة".
أفضل مثال على هذا القول، هو سيطرة ألمانيا على الاتحاد الأوروبي، ولكن حتى في المجال العسكري، فإن ألمانيا تعتني بنفسها. إذ حسب معهد ستوكهولم في أبحاث السلام الدولي، كانت ألمانيا في العقد الماضي، ثالث أكبر مصدّر للسلاح في العالم، بعد الولايات المتحدة وروسيا.
والأكثر من ذلك أن هذه الصادرات كانت على حساب تخفيض نفقات التسلح المحلي. يقول معهد ستوكهولم المذكور إن نسبة الإنفاق على التسلح شكلت ما مجموعه 1.4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا، مقارنة بالنسبة التي يستهدفها الناتو وهي 2 في المائة. بينما كانت هذه النسبة 2.2 في المائة في فرنسا، و2.4 في المائة في المملكة المتحدة، و3.8 في المائة في الولايات المتحدة.
يشكو حلفاء ألمانيا استغلال برلين المجاني للأمن الجماعي. وقد بدأ القادة الألمان نقاشاً في هذه السنة حول ذلك، حيث حث الرئيس الألماني يواكيم جوك ألمانيا على استخدام قواتها المسلحة بتصميم أكبر.
ومع ذلك يبدو أن الجمهور الألماني غير حريص على ذلك. فقد توصل استطلاع للرأي نشرته وزارة الخارجية، إلى أن 37 في المائة فحسب من يؤيدون سياسة خارجية نشطة، مقابل 60 في المائة ضد ذلك. يقول باولسون في هذا الصدد: لن يعبئ ألمانيا سوى تهديد حقيقي، مثل هجوم إرهابي كبير".
وفي الغرب، ضعُف بشكل عام تأييد نشطاء السياسة الخارجية منذ نشوب الأزمة المالية العالمية، وفشل اجتياح كل من العراق وأفغانستان في جلب أي استقرار لهذين البلدين.
بالتالي فإن ألمانيا تظهر على المسرح بما لديها من سياسات ناعمة إلى حد كبير، تماماً في الوقت الذي تصبح فيه البلدان الغربية الأخرى أقل حرصاً على التدخل عسكريا، وفي هذه الأثناء، تصبح أقرب قليلاً إلى موقف ألمانيا.
تعتبر أوكرانيا حالة اختبار. مع استبعاد التدخل العسكري الغربي، تبدو روسيا بلداً مناسباً لتطبيق الدبلوماسية على الطراز الألماني عليها. في ضمه للقرم خرق بوتين القانون الدولي. وفي معالجة ضحايا الطائرة الماليزية، اتُّهِم بأنه يفتقر إلى الأخلاق والتهذيب.
إذا استطاعت برلين إقناعه بإعادة النظر في مواقفه، فإن ذلك سيكون مفيداً لأوروبا الشرقية، إلى جانب حماية مصالحها الإقليمية الخاصة، لكن إذا أخفقت، فستتكشف القيود التي تحف بنهجها.
( فايننشال تايمز 17/8/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews