أردوغان.. السلطان الجديد في كرسي كمال أتاتورك
لم تكن الانتخابات الرئاسية التركية التي جرت يوم الأحد 10 أغسطس الجاري، مفاجئة في شيء، إذ حقق فيها رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية منذ 2003، فوزا مهما بنسبة الـ52 في المئة ، متقدماً بفارق كبير على منافسيه منذ الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت للمرة الأولى بالاقتراع المباشر، حاصدا 52 في المئة من الأصوات.. وحصل مرشح حزبي المعارضة الاشتراكي الديمقراطي والقومي أكمل الدين إحسان أوغلي أستاذ التاريخ المرموق الذي تولى قيادة منظمة المؤتمر الإسلامي على 39 في المئة من الأصوات، فيما جمع مرشح الأقلية الكردية صلاح الدين دمرتاش قرابة 10 في المئة.
وقال رجب أردوغان مخاطبا آلاف المؤيدين المتجمعين تحت شرفة المقر العام لحزبه في أنقرة "سأكون رئيسا لـــ 77 مليون تركي وليس فقط للذين منحوني أصواتهم".. وتابع موجها كلامه إلى معارضيه الذين يتهمونه بالسعي للحد من الحريات وأسلمة النظام "أتمنى من كل الذين وصفوني بالديكتاتور والمتسلط أن يراجعوا موقفهم".
فلأول مرة في هذا البلد، كانت تقديرات استطلاعات الرأي التي تنبأت بفوز كاسح لأردوغان، إذ أصبحت الحياة السياسية التركية أكثر شفافية، رغم أجواء الانقسامات العرقية والطائفية و الأيدولوجية التي تعيشها تركيا، والتي تذكرنا بحالة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي بين اليمين واليسار التي طبعت الحياة السياسية التركية في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم.
وتقف تركيا أمام منعطف ربما يكون الأهم في تاريخها منذ انهيار إمبراطوريتها العثمانية، وسقوط الخلافة فعلاً من طرف كمال أتاتورك في 3/3/،1924 الذي أسس الجمهورية التركية الحديثة، وغيّر هويتها الإسلامية، وأحل العلمانية الأوروبية منهاجاً للحكم.
لا شك أن رجب طيب أردوغان أثار موجة من القلق ليس في أوساط العلمانيين الأتراك فحسب، وإنما في أوساط المؤسسة العسكرية التي نصبت نفسها حامية لإرث أتاتورك، ومعارضة عودة الإسلام مجدداً إلى البلاد، والحفاظ على هويتها العلمانية بكل الطرق والوسائل.. فالعسكر تدخلوا أربع مرات، وبمعدل مرة كل عشر سنوات، لضبط إيقاع الديمقراطية، وبما يؤدي إلى عدم هيمنة الإسلاميين على مقدرات البلاد في نهاية المطاف.
الزعيم التركي أردوغان بفوزه هذا في الانتخابات الرئاسية ينضم بذلك إلى مؤسس الجمهورية التركية الحديثة والعلمانية مصطفى كمال في اعتبارهما أكثر القادة تأثيرا في تاريخ تركيا الحديثة.. وكان أردوغان أعلن بوضوح أنه يريد تحويل تركيا إلى جمهورية رئاسية، بدلاً من أن تظل تركيا تتبع النظام البرلماني، حيث صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة جداً..
وإذا كانت الخطوة الأولى في هذا التوجه هي انتخاب الرئيس بالاقتراع المباشر من الشعب وليس البرلمان كما كان الحال سابقا، فإن أردوغان أعلنها من قبل، أنه يريد تعزيز سلطة الرئيس في حال فوزه.. وقال "إن دستورا جديدا لتركيا الجديدة سيكون من أولوياتي إذا انتخبت رئيساً.. دستور جديد يعني أيضا مستقبلا جديدا".
وينظر المحللون في تركيا، وفي الغرب، أن النظام السياسي التركي مقبل على تغييرات جوهرية، ذلك أن رجب طيب أردوغان الذي ظل لمدة 11 سنة في السلطة في إسطنبول، لم يخف يوما طموحاته وإرادته السياسيتين في تعديل الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس، وبالتالي إضفاء الشخصنة المميزة للنظام السياسي التركي في ظل الطموح العارم لأردوغان.. والحال هذه، فإن نتائج الانتخابات الرئاسية الحالية ستشكل نقطة الانطلاق نحو التغيير في النظام الرئاسي التركي.
لقد سار أردوغان في طريق الحداثة، مقدما صورة مشرقة في الوئام بين الديمقراطية والإسلام، رافضاً بذلك اتخاذ أي خطوة من خطوات الأسلمة، قد تُثير ردود فعل غاضبة أيضاً لدى فئات من تلك البلاد التي نشأت أجيالها على العلمانية منذ ثمانين عاماً.. وإذا أراد هذا الرجل البالغ من العمر 60عاماً، تحقيق هذا الهدف فعلاً، فهو لا يستطيع تجاهل آراء وتوجهات نُخب البلاد التي تتبنى العلمانية: من رجال الأعمال ووسائل الإعلام الكبرى، والجامعات والطبقة الوسطى بالمدن، والتي دخلت في المجتمع الاستهلاكي العصري.. هذه الدوائر كلها لن تسير مع أردوغان إذا أعرض عن الطريق التي سارت فيه تركيا منذ عهد مؤسسها الأول كمال أتاتورك.. وكان نجم الدين أربكان، معلم الإسلاميين الأتراك كلهم، ومعلّم أردوغان أيضاً، والذي نشأ في أحياء إسطنبول الفقيرة، قال لأردوغان قبل شهور: لا تسلك سلوك ذوي العقول المقفلة! أدرك أردوغان أن المسلم المتدين، هو الذي يستطيع أن يكسب أكثريات في تركيا، وأن ينتهج سياسة معتدلة تدخل الإسلام إلى عالم الحداثة، وتدخل في الوقت عينه الحداثة إلى عالم الإسلام.. وقد تعلم ذلك لا من أربكان، بل من تورغوت أوزال، الذي حقق ذلك واتجه بقوة نحو أوروبا.
يقول روان شاكر، الاختصاصي في القضايا الإسلامية،:"أردوغان ليس إسلامياً بل هو نتيجة لفشل الإسلام السياسي في تركيا".. ويؤكد طه آكيول، الخبير الآخر في الإسلام وكاتب الافتتاحيات في صحيفة "ميلييت" اليومية: "أردوغان وأبناء جيله تمردوا على الإسلاميين الكماليين" من صنف أربكان.
ومع مراكمتهم للتجربة، اتجهوا نحو المزيد من الاعتدال وتأثروا بسياسات السوق الحرة التي مارسها الرئيس تورغوت آوزال في مطلع التسعينيات.. وكانت نقطة الانفصال رفض الجيل الجديد لفكرة "السلطة المقدسة" (الخلافة) والخلاص. عندها بات ممكنا مغادرة الدوائر المقدسة لولوج السياسة.
تعلم أردوغان الطموح الدرس مبكراً، حين كان لا يزال مدرس الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة إسطنبول صاعداً إلى فوق من أصوله الفقيرة.. عام 1994 فاز برئاسة البلدية بإسطنبول.. وقد شكرت له المدينة المليونية المليئة بالمشاكل جهوده التطويرية الكبيرة.. وفي العام 1998 بدا كأنما حياته السياسية تتجه لنهاية قريبة، فقد أدلى بتصريح مخالف للقانون كلفه فترة في السجن، ومنعه من المشاركة في الحياة العامة مدى الحياة.. لكن هذا الحكم (الجائر) زاد من شعبيته وعزيمته، وشجعه بعد انتهاء الأزمة على إجراء إصلاحات قانونية بسرعة قياسية.
من الواضح أن تجربة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان في تركيا تقدم لنا صورة مشرقة عن وجه الإسلام المعاصر القادر وحده على محو التهمة الشائعة في الأوساط العلمانية، والمتمثلة في عداء الإسلاميين للديمقراطية، الأمر الذي يتطلب التحذير من دخولهم طرفاً في المنتظم السياسي القانوني إن في موقع السلطة أو المعارضة، وهو اتهام خطير لما يحمله من رسالة تحريضية استعدائية وترهيبية شديدة لأنظمة هي أصلاً ما اعتادت أسلوباً للحكم غير أسلوب الانفراد.. ورغم المحاولات المتكررة للعلمانيين المتطرفين لأدلجة النظام الديمقراطي بما يقيم رباطاً لا ينفك بينه وبين شتى ضروب العلمنة وإقصاء الدين من المجال العام وحتى الخاص كلما تمكنوا، إلا أن واقع التطبيقات المتنوعة للنظام الديمقراطي يشهد على توفره على أسس متينة لحيادية آلياته وعدم ارتباطها بأي منظور أيديولوجي، علمانياً كان أم دينياً.. إنه نظام يقوم على تسويات يتوصل إليها الفرقاء يستعيضون بها عن الوسائل العنفية بالوسائل السلمية في حل خلافاتهم سواء كانوا من عرق واحد أو دين واحد أو لغة واحدة أو كانوا مختلفين في كل ذلك أو بعضه.
كان أردوغان يريد السيطرة على منصب رئاسة الجمهورية في البلاد أياً يكن الثمن، والسبب بسيط جداً، فمن خلال رئاسة الجمهورية، يمكنه إدارة السلطتين العسكرية والقضائية بحيث يعين أشخاصاً قريبين من الوسط الإسلامي لعضوية المجلس الأعلى للتعليم العالي والمحكمة الدستورية العليا والمحاكم الأخرى وهي من أهم ضمانات النظام العلماني القائم في البلاد.. القضاء والجيش هما السلطتان الوحيدتان اللتان يعجز عن السيطرة عليهما مباشرة الآن في تركيا.
لقد غيّر انتخاب أردوغان رئيساً للجمهورية موازين القوى بين المعسكر «الكماليّ» العلمانيّ المتشدّد ، ومعسكر «حزب العدالة والتنمية»، الذي أصبح يتحكّم للمرّة الأولى بفرعي السلطة التنفيذية، وبالتالي الرئاسة التي تُعتَبَر مؤسسة تحمي إرث مصطفى كمال أتاتورك.. وبالفعل فللمرة الأولى يتبوأ إسلامي رئاسة الجمهورية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك في العام 1923، وأكد الشعب أنه في النظم الديمقراطية، هو الحاكم الأول والأخير.. وهكذا، فإن القصر الرئاسي في تشانكايا الذي سكنه للمرة الأولى أتاتورك مؤسس الجمهورية بقي باستمرار «قلعة علمانية»،غير أن مجيء مسلم ملتزم، ومعه زوجته التي ترتدي الحجاب، للإقامة في القصر، سيحدث ما يمكن أن يسمى «ثورة» في الحياة العامة التركية.
ديمقراطية تركيا الصلبة تعتبر فريدة من نوعها في العالم الإسلامي.. لكن تركيا ليست متفردة في ذلك فحسب ، بل هي متفردة أيضاً في ازدهار اقتصاد السوق فيها، وهذا ما يميزها حتى على تجارب ناجحة إسلامية أخرى مثل ماليزيا.. والعلمانيون المعارضون للرئيس التركي المنتخب ديمقراطيا لا يحبون الحجاب الذي ترتديه زوجته، ولكنهم يواجهون هذا الانتصار للرئيس الإسلامي بقلب غير هياب، وهم لا يعترضون على الكفاءات التي يتميز بها رئيسهم الجديد..
عندما نجح رجب طيب أردوغان، ذو الأصول الإسلامية الراديكالية، في كسب الأكثرية في البرلمان لحزب العدالة والتنمية الإسلامي عام ،2002 طُرح عليه السؤال التالي: هل يعوق الإسلام الاقتصاد؟ أجاب أردوغان أنه ملتزم باقتصاد السوق.
في عهد حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة رئيس الوزراء التركي أردوغان حققت تركيا نهوضاً اقتصادياً كبيراً، برغم الإشكاليات التي تعاني منها البلاد: الصراع المسلح مع الأكراد، وصعود الإسلام السياسي، والنزعة المعادية للولايات المتحدة، والتوتر تجاه أوروبا، فالصناعة القديمة والحديثة نمت في العام 2005 بمعدل 7 في المائة.. وخلال السنوات (2002-2007)، نجح حزب العدالة والتنمية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، والوصول إلى نسبة تنمية مذهلة في الاقتصاد التركي وصلت إلى حوالي 7% في السنة.
كان العامل الاقتصاديّ حاسماً أيضاً في شرق البلاد، وفق ما يعتقده المحللون، إذ شهد ازدهاراً يردّه سكانه إلى جهود الحكومة.. لكنّ حزب العدالة والتنمية قد سجلّ أيضاً تقدّماً مهمّاً في الجزء المتخلّف من الأناضول.. ذلك كلّه جعل من حزب العدالة والتنمية الحزب الأول في المناطق الكرديّة.. وما يبعث على التفاؤل أن الطبقات الوسطى والعليا تتصلب وتتسع، حيث نجح حزب العدالة والتنمية في امتصاص طاقتها المحافظة بشكلٍ كامل، وفي ضبط التضخم بوصفه علة تركيا القديمة.
وفي أعقاب التنمية الاقتصادية، وقبل ذلك في أعقاب الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية التي جرت في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، نشأت نخبة أغنياء جدد، بعضهم مسلمون متزمتون، الأمر الذي أعطى دعماً واسعاً لحزب العدالة والتنمية.. فإسطنبول العاصمة التجارية، وكذلك الأناضول المحافظ والذي كان يعتمد على الزراعة، كلاهما يدخل عصراً من التصنيع العملاق، فيما صار يعرف بالكالفينية الإسلامية، لدى أحد مراكز الأبحاث.. وهذا قاد إلى تغير النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية في تركيا، بحيث صارت نخب الأناضول المهمشة في قلب السلطة التركية، وهو إنجاز أردوغاني خلال السنوات العشر الماضية، وبذلك أصبح مشروع أردوغان يحظى بدعم قوي من النخب الاقتصادية الجديدة في تركيا.
( الشرق 15/8/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews