أقوياء ضعفاء
تدفع سورية ثمناً باهظاً لاشتباك الأقوياء - الضعفاء المنخرِطين في النزاع الدائر فيها. اشتباك أنجب على مدى عامين نهراً من القتلى والجرحى وبحراً من اللاجئين وأعاد البلاد عقوداً الى الوراء. تدفع ثمن توازن يهدد استمراره باقتلاع سورية نفسها وتفكيكها. إنه التوازن الممتد من مجلس الأمن الى أطراف دمشق بين محورَيْن يضم كل منهما عدداً من الأقوياء - الضعفاء.
يستطيع النظام السوري الادّعاء أنه قوي، وأن الريح لم تجرفه سريعاً على غرار ما فعلت بالأنظمة التي كانت قائمة في تونس وليبيا ومصر واليمن. يستطيع الزعم انه اعترض رياح «الربيع العربي» وعرقلها وأدماها وغيَّر في صورتها وأثار مخاوف الكثيرين منها. يستطيع المباهاة بأنه قادر على إلحاق دمار هائل بأي مدينة أو قرية تخرج عن سيطرته، وأنه استطاع إقناع قاعدته العميقة بأنه يخوض عنها وبها حرباً مقدّسة تستحق هذا النزيف الراعب القاتل. وأنه حافظ على العمود الفقري لآلته العسكرية والأمنية، وعلى خطوط إمداده التي تحمي شرايينه من الجفاف، وأنه يمتلك حليفاً دولياً سخيّاً اسمه روسيا، وحليفاً إقليمياً سخيّاً اسمه إيران.
يستطيع النظام ادعاء أنه قوي ويحتفظ بقدرة نارية وتدميرية عالية، لكنه ضعيف في الوقت ذاته. تقلّصت المناطق الخاضعة لسيطرته، وقذائف الثوار تتساقط في قلب دمشق مستهدفةً رموز سطوته. إنه قادر على المقاومة وتأخير سقوطه أو التسبب في معركة مديدة مدمّرة، لكنه لم يعد قادراً على استعادة ما خسره. الأهم أنه لم يعد قادراً على إطلاق عملية للخروج من المأزق الرهيب من دون دفع الثمن الذي تردد في دفعه للأخضر الإبراهيمي. القول ان النظام قادر على الإقامة سنوات على جزء من سورية متحصّناً بآلته العسكرية وولاء مُكوِّنٍ شعبي له، يشكّل مجازفة بالغة الخطورة على هذا المكوِّن وعلى سورية ومحيطها. لا يزال النظام قادراً على إحباط حل، لكنه عاجز عن إطلاق حل أو المشاركة في حل من دون تنازلات جوهرية يعتبرها، حتى الآن، مرادفة للهزيمة الساحقة.
تستطيع المعارضة السورية القول إنها قوية. تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد وتقرع أبواب دمشق. العنف الرهيب الذي انصبّ على مؤيديها ومعاقلها ضاعف الغضب على النظام. تستطيع الحديث عن تأييد واسع لها في صفوف المكوِّن الذي يشكّل أكثرية السكان. تستطيع الحديث عن تأييد عربي وإسلامي وغربي واسع لها. عن نجاحها في إسقاط الشرعية العربية للنظام.
تستطيع المعارضة القول انها قوية وأن دم الشهداء يحصّنها ضد ما يستهدفها. لكن المعارضة لا تستطيع ايضاً إنكار نقاط ضعفها. لم تستطع بلورة تصوّر موحّد ولا هيئة موحّدة. لم تستطع ضبط التجاذبات والتصدّعات والشكوك المتبادلة. لم تستطع تقديم صورة موثوقة ومطمئنة لأهل الداخل ولأهل الخارج. ولم تتمكن من اختراق المكوِّن الذي يحمي النظام، أو إقناع فئات واسعة منه وتبديد مخاوفها من التغيير. وبمقدار ما أفادت المعارضة من المساهمة القتالية الميدانية لـ «المقاتلين الجوالين» الذين تسللوا الى الأرض السورية، فإنها تدفع في الوقت ذاته ثمن المخاوف التي يثيرها تحصّن «جبهة النصرة» في أنحاء من سورية.
يمكن القول إن روسيا قوية. شلّت مجلس الأمن وحرمت الدول الغربية من غطاء الشرعية الدولية في الأزمة السورية. حوَّلت بيان جنيف إلى ورقة قابلة لتفسيرات متناقضة. زوّدت الجيش السوري بما يحتاجه. لكن روسيا ضعيفة ايضاً. قادرة على منع حل على حساب حليفها لكنها لم تظهر قدرة على إطلاق حل يُخرِج سورية من المأساة التي تتخبط فيها. روسيا لاعب قوي - ضعيف.
لا شك في أن إيران هي اللاعب الأول في ديمومة النظام السوري ميدانياً. لم تبخل عليه بشيء. أظهَرَتْ قدرة على اعتراض العاصفة. لكنها ضعيفة أيضاً. انخراطها العميق في المواجهة، حرمها من أي قدرة على المساهمة في بلورة حل للخروج منها. إنها تسبح ضد مشاعر الأكثرية في سورية والمنطقة، ويساهم موقفها هذا في تأجيج النزاع السنّي - الشيعي. يمكن قول الشيء ذاته تقريباً عن «حزب الله» الذي يسبح في المياه ذاتها.
يمكن إطلاق صفة القوي - الضعيف على لاعبين آخرين بينهم تركيا ودول أخرى تُقدّم المال والسلاح أو الدعم الديبلوماسي. أهم ما تشهده الأزمة السورية الآن هو محاولة تعديل ميزان القوى، للخروج من توازن الأقوياء - الضعفاء من أجل فرض حقائق جديدة على الأرض، تُرغم النظام على السير في حل سياسي. والأكيد أن هذا الفصل سيكون شديد القسوة والخطورة.
( المصدر : الحياة اللندنية )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews