محاصرة منطقة التمرد في أوكرانيا ضمن مرمى تبادل النيران

في شارع ترينيف الذي يبعد مسافة قصيرة من مركز مدينة دونيتسك، تجمعت جماهير حول حي من المباني السكنية المكونة من تسعة طوابق مليئة بالثقوب، الناتجة عن طلقات نارية، في الوقت الذي وصلت فيه الحرب في شرقي أوكرانيا إلى قلب أكبر مدينة فيها. يبدو واضحاً أن الهجوم على هذه المنطقة تسبّب في حرق عديد من البيوت السكنية وفجّر شرفتين في طابقين، ونثر الركام والزجاج المكسر فوق أرض خارجية، كما نتج عن ذلك تدمير كراج مجاور.

يقول شهود "إن القصف جاء من مواقع أوكرانية تقع في ضواحي دونيتسك، ويظهر أن هدفها كان قاعدة عسكرية مجاورة يحتلها ثوار موالون لموسكو". يقول ليوبوف فاسيليفينا البالغ من العمر 76 عاماً، الذي يعيش في الطابق الثاني من شقة سكنية "شعرت كما لو أن ذلك كان هزة أرضية". لم يكن ذلك أول حادث من نوعه، فالسلطات المحلية تقول "إن الهجمات الصاروخية التي شُنت عبر المنطقة خلفت وراءها 22 قتيلاً.

ظهرت التكلفة البشرية للحرب في شرق أوكرانيا في الطريقة المذهلة التي تم فيها إسقاط الطائرة الماليزية رقم إم إتش17 في هذا الشهر فوق الأراضي التي يحتلها المتمردون، التي نتج عنها مقتل جميع ركابها البالغ عددهم 298 راكباً. يبدو أن هذه الكارثة حجبت الرؤية عن حصيلة القتلى الذين يتزايد عددهم بين السكان المدنيين في أوكرانيا، إذ تقول الأمم المتحدة "إنه منذ بدأت كييف في منتصف نيسان (أبريل) شن عملياتها المضادة للإرهاب"، قتل في أوكرانيا 1,129 شخصاً من المدنيين وجرح 3442 شخصاً غيرهم.

يبدو من المؤكد أن يزداد عدد الإصابات مع اقتراب الصراع من نقطة انعطاف مهمة، وقد حققت القوات الأوكرانية انتصارات كبيرة في الأيام الأخيرة، رافقها الاستيلاء على أراضٍ ورد المتمردين على أعقابهم.

ردّت روسيا على ذلك، حسب مصادر أمريكية، بزيادة تدفق الأسلحة الثقيلة عبر الحدود، وقدمت مساعدات أخرى للانفصاليين. كما يعتقد خبراء أن روسيا يمكن أن ترسل حتى قواتها، إذا شعرت أن الثوار أوشكوا على خسارة المعركة. أثناء ذلك ومع اقتراب القوات الأوكرانية من مدينة دونيتسك، وهي واحدة من المواقع الحصينة الباقية للمتمردين، يجد آلاف من السكان أنفسهم واقعين بين النيران المتبادلة. كما بدأ الناس الذين يعيشون بالقرب من خط الجبهة، يرون أن حياتهم قلبت رأساً على عقب بسبب صراع لا يفهم سوى عدد قليل منهم سببه.

كما حوصر كثيرون بين القوات الأوكرانية الحكومية في شمال وغرب مدينة دونيتسك من جهة، ومن جهة أخرى جيش مهاجم عنيد متحصن بقوة في مناطق سكنية قطع على نفسه عهداً بالوقوف حتى اللحظة الأخيرة في المدينة، مهما كان الثمن من أرواح المدنيين. ويزداد الغضب مع كل زيادة في أعداد القتلى، وهو الذي يمكن أن يعرض للخطر أي تسويات لاحقة بعد الحرب.

يقول سيرجي بوليكو، المهندس البالغ من العمر 54 عاماً الذي يعيش في شارع ترينيف: "لا نستطيع أن نعيش مع هؤلاء (الأوكرانيين)، إن هذا نظام فاشي".

بدأت الهجمات الصاروخية التي تتزايد شدتها تواجه انتقادات شديدة. وتدعي المجموعة المدافعة عن حقوق الإنسان هيومن رايتس ووتش، أن الهجمات بصواريخ جراد على مدينة دونيتسك والمناطق المجاورة لها، من قبل القوات الأوكرانية والميليشيات الموالية لها بين 12 يوليو و21 منه خلفت وراءها 16 قتيلاً وكثيرا من الجرحى.

ألقت كييف باللوم على المتمردين في التسبب بهذه الهجمات، حيث يقول أوليكساندر دانيليوك، أحد مستشاري وزير الدفاع الأوكراني "استخدم الإرهابيون المدعومون من الروس بصورة متعمدة المدفعية ضد المناطق الآهلة بالسكان، في محاولة منهم لتشويه سمعة الجيش الأوكراني، والسبب الرئيسي في هذه العملية المضادة للإرهاب هو تحرير مدن شرق أوكرانيا وليس تدميرها".

ومهما كانت الجهة الملومة، إلا أن الضربات بالمدفعية هي خطر واحد فقط من المخاطر التي يواجهها سكان دونيتسك. كان على هؤلاء السكان أن يتحملوا طوال ثلاثة أشهر مخاطر القوانين التي فرضها المتمردون الانفصاليون.

تم خطف عشرات من هؤلاء تحت تهديد السلاح، وتعرضوا للحجز وأحياناً للتعذيب. وبسبب عدم وجود أي شرطة، أصبح النهب واقتحام البيوت والاغتصاب من الأمور الشائعة في هذه المناطق. ذكر تقرير صدر عن الأمم المتحدة أن "الحصانة التي تمتعت بها المجموعات المسلحة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها في الشرق، تسببت في انهيار حكم القانون في هذه المناطق".

وفي سلافيانك التي كانت المعقل الأخير للمتمردين قبل هروبهم منها في أوائل يوليو، أخرجت الشرطة من قبر جماعي 14 جثة تقول إنها لضحايا أعدمهم المتمردون ميدانياً. ويقول السكان المحليون في دونيتسك "إنهم بدأوا، بعد أن شعروا بالقرف من الحرب، الحديث بصوت عال عن معارضتهم لحكام مدينة دونيتسك". وفي اجتماع عام عقد هذا الشهر، وجهت إحدى المتقاعدات اتهامات ضد بافيل جوباريف، وهو واحد من قادة الانفصاليين، بأنه يعرض حياة الناس للخطر بإطلاق النار على الأوكرانيين من أسطح مباني الشقق السكنية. قالت هذه المرأة "اذهبوا بعيداً عن هنا، وأطلقوا سراح هذه المدينة التي يبلغ سكانها مليون نسمة، ولا تجعلونا رهائن فيها". وبسبب الضغوط الواقعة عليهم من المقاتلين والجيش الأوكراني، عبر سكان دونيتسك عن رفضهم لما يحدث في مدينتهم. هرب عشرات الآلاف من المدينة، وتقول الأمم المتحدة "إن محالها التجارية مغلقة، وأبواب ونوافذ مراكز الأعمال مغلقة بألواح خشبية. وتقف الحدائق خالية من روادها بعد أن كانت يوماً مليئة بالأزواج الشابة والمتقاعدين الذين كانوا يسيرون في طرقاتها. وفي النهار تجوب مجموعات من الكلاب الوحشية شوارعها المعرّاة من الأشجار، أما في الليل فتسمع أصوات القذائف تدوي من بعيد، وطلقات الرصاص من الأسلحة الخفيفة تهز هدوء ليالي الصيف.

والوضع أسوأ من ذلك بكثير في البلدة المجاورة لوجانسك، وهي المعقل الآخر الحصين للمتمردين، الذي أصبح الهدف الرئيسي لتقدم القوات الأوكرانية بعد سقوط بلدة سلافيانسك".

وقعت أجزاء من هذه البلدة في الأيام الأخيرة تحت نيران قصف مدفعي كثيف، ما تسبب في إصابات جسيمة بين السكان المدنيين. وتقول السلطات المحلية "إن 93 شخصاً قتلوا منذ بداية تموز (يوليو)، بينما دمر 97 مربعاً من مباني الشقق السكنية و286 منزلاً سكنياً خاصاً".

تقول كارينا بوندارينكو، إحدى المقيمين في بلدة لوجانسك، التي هربت من المدينة في الأسبوع الماضي، "إن الناس كانوا يحتمون لعدة أيام في أقبية منازلهم". وتزايدت صعوبة المغادرة، فمحطة السكك الحديدية مغلقة وسيارات الأجرة لا تعمل، والمتمردون منعوا السيارات الخاصة من السير في الطرق، وهي تضيف "الناس واقعون في فخ لا يستطيعون الخروج منه".

( فايننشال تايمز 3/8/2014 )