المونديال والسياسة وأشياء أخرى
إنه شهر الساحرة المستديرة، شهر كرة القدم، شهر شد أنظار العالم في مختلف أنحاء المعمورة، شباب وكهول، نساء ورجال من مختلف الأعمار والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. رؤساء دول، سياسيون، مشاهير، نجوم وفنانون الجميع يشاهد ويراهن ويشجع ويفرح ويبكي، إنها كرة القدم اللعبة الأشهر على الإطلاق في العالم. حفل افتتاح المونديال في البرازيل يوم 12 يونيو الفائت شاهده 4 مليارات نسمة والنهائي يوم 13 يوليو مرشح لأن يُشاهد من قبل أزيد من هذا الرقم. فالعرس الكروي العالمي في البرازيل جلب مئات الآلاف من جميع أنحاء العالم إلى بلد السامبا. مئات الآلاف بألوان أعلام بلدانها مرسومة على وجوهها جاءت لتشجع وتستمتع وتظهر ولاءها وحبها لبلدها وكيف لا وأن البلد تأهل ضمن أحسن 32 دولة في العالم لمونديال كرة القدم. على مدى العقود الماضية أصبحت كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، بل بالنسبة للعديد من الدول والشعوب أصبحت رمزا للتفوق والتميز. إن استقبال المنتخب الوطني الجزائري لكرة القدم بعد عودته من البرازيل بعد تأهله لدور الستة عشر لأول مرة في تاريخه من قبل رئيس الدولة ورئيس الوزراء والحكومة والشعب لخير دليل على الزواج السعيد بين الرياضة والسياسة.
افتتاح المونديال تم بحضور شخصيات سياسية بارزة من رؤساء وملوك ومسؤولين سياسيين كبار من عدة دول من جميع أنحاء المعمورة. الحضور في مدرجات الملعب في مراسم الافتتاح فاق ال70 ألف متفرج وأمام شاشات التلفزيون عبر القارات الخمس فاق 4 مليارات نسمة. هذا الحضور وهذا الاهتمام العالمي يعتبر فرصة ذهبية للساسة وللحكام وللدول لإبراز العضلات والقوة ولاستغلال الاهتمام الجماهيري لتمرير الرسائل السياسية التي يريدها هذا الرئيس أو ذاك الزعيم. نهائيات كأس العالم لكرة القدم لم تعد لعبة ورياضة فحسب وإنما تخطت هذا البعد الرياضي لأبعاد أخرى مثل الاقتصاد والسياسة.
الرياضة إذن في القرن الحادي والعشرين ليست بريئة، مجرد رياضة بل هي تجارة ورعاية وإعلانات وسياسة…إلخ. وصدق "هتلر" يوما عندما قال " إن ملايين الناس المدربين على الرياضة الشغوفين بحب الوطن، المتشبعين بالروح الهجومية يمكن أن يتحولوا في رمشة عين إلى جيش". فالمنتخب البرازيلي الفائز بكأس العالم لكرة القدم سنة 2002 جعل 170 مليون برازيلي آنذاك ينسون هموم الفقر والمشاكل اليومية وسوء الإدارة والتسيير من قبل الحكومة البرازيلية، واستطاع أن يجعل هذه الملايين من البشر ترقص السامبا في عرس واحد وحفل واحد، الأمر الذي تعجز عن تحقيقه أية مؤسسة أخرى داخل البرازيل بما فيها مؤسسة رئاسة الدولة. ومن خلال الفوز بكأس العالم أدرك الرأي العام البرازيلي أنه بألف خير وأنه الأحسن والأقوى عالميا في ميدان كرة القدم وهذا إنجاز عظيم يجب أن تشكر علية وزارة الرياضة والشباب والاتحادية البرازيلية لكرة القدم والحكومة والرئيس البرازيلي. أكثر من هذا شعوب في دول عديدة رقصت السامبا وساندت الفريق البرازيلي وهنأت الرئيس البرازيلي والشعب البرازيلي بالإنجاز العظيم. هذه هي إذن الرياضة التي تخترق الهموم والمشاكل وتبرز الإنجازات والنجاحات. من جهة أخرى نلاحظ أن المونديال العشرين لكرة القدم في البرازيل جلب ويجلب الكثير من المتاعب للحكومة البرازيلية حيث أن المعارضة السياسية والنشطاء من مختلف أطياف المجتمع المدني تظاهروا ويتظاهرون ونظموا وينظمون مسيرات ضخمة لاستغلال الحدث العالمي والوصول للرأي العام المحلي والدولي للتعبير عن استيائهم من سياسة الدولة ومن استثمارها 11 مليارات دولار في بناء الملاعب على حساب أولويات أخرى كالمرافق الصحية والبنية التحتية وتوفير فرص العمل للبطالين.
في القرن التاسع عشر ربطت القوى الاستعمارية التطور والتفوق الرياضي بحركة الاستعمار وتفوق النظام الرأسمالي الغربي، وأصبح المتفوق في الرياضة هو المتفوق في الاقتصاد وفي السياسة وفي الحضارة وأصبح المنتصر في الرياضة هو المنتصر في الحرب. وهكذا دخلت الرياضة السياسة وكيف لا وهناك دول استثمرت مليارات الدولارات لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم أو لاستضافة الألعاب الأولمبية أو الألعاب الأسيوية أو الإفريقية أو ألعاب البحر الأبيض المتوسط إلى غير ذلك. وبذلك تم توظيف الرياضة في خدمة السياسة وأصبحت السياسة الرياضية جزءا لا يتجزأ من سياسة الدولة؛ وأصبح الأبطال في مختلف الألعاب والرياضات وخاصة الألعاب الأكثر شعبية ككرة القدم يقلّدون الأوسمة ويستقبلون استقبال المحررين المنتصرين من رئيس الدولة وتقدم لهم التهاني والتبريكات من قبل كبار السياسيين.
مع مطلع القرن العشرين تحوّلت الملاعب إلى فضاءات للدعاية السياسية وللتجنيد ولغسل الأدمغة وحتى للانقلابات العسكرية. فعبرت الشعوب المستعمرة (بفتح الميم) عن حقها في تقرير مصيرها من خلال مشاركاتها المختلفة في المحافل الرياضية الدولية وكان فريق جبهة التحرير الوطني الجزائري إبان استعمار فرنسا للجزائر خير سفير للقضية الجزائرية، ونلاحظ اليوم المنتخبات الفلسطينية ودورها الريادي والاستراتيجي بالتعريف بالقضية الفلسطينية وإسماع صوت أطفال الحجارة للعالم. كما عبّرت الأقليات والأعراق عن حقوقها من خلال الرياضة وخير دليل على ذلك الزنوج الأمريكيين ابتداء من العداء المشهور "جيسي أوينس" إلى الملاكم العالمي محمد علي الذي رفض أن يلتحق بالجيش الأمريكي في فيتنام. وهكذا بلغ استغلال الرياضة سياسيا ذروته مع صعود الأنظمة الشمولية في ألمانيا الهتليرية النازية وإيطاليا الموسولينية الفاشية والاتحاد السوفيتي من لينين إلى ستالين إلى كروتشف و بريجنيف…الخ. ففي سنة 1934 استضافت إيطاليا بطولة العالم لكرة القدم واستغل موسوليني والفاشيون الحدث وحوّلوا ملاعب كرة القدم إلى حلبات للدعاية وغسل الأدمغة وتجنيد الجماهير واستغلال حماسهم وروحهم الوطنية ومشاعرهم القومية. وفي سنة 1936 استضافت ألمانيا النازية الألعاب الأولمبية وجمعت برلين الرياضيين من جميع أنحاء العالم لكن بشرط أن يعلم الجميع أن العرق الآري هو أحسن عرق فوق الأرض وأنه وُلد ليتفوق وليحكم العالم. وهكذا زحفت ألمانيا من الملاعب المختلفة للرياضات الأولمبية إلى غزو جيرانها وإعلان الحرب على العالم. كما لا ننسى أن "هيتلر" رفض أن يسلم الميدالية الذهبية للعداء الأمريكي الأسود " جيسي أوينز" لا لشيء إلا لأنه أسود وحسب منطق "هتلر" لا يمكن للأسود أن يتفوق على الأبيض الألماني الآري.
الأيديولوجية الاشتراكية والشيوعية هي بدورها استغلت الرياضة لتأكيد تفوقها وقوتها. الاتحاد السوفيتي ومن كان يدور في فلكه وخاصة ألمانيا الديمقراطية ورومانيا وبلغاريا والمجر وتشيكوسلوفاكيا كانت هذه الدول كلها تستثمر استثمارا لا حدود له في مجال الرياضة وكانت تنفق مئات الملايين من الدولارات على رياضييها كما كانت تستعمل المنشطات وكل الوسائل للتفوق على المعسكر الرأسمالي. وكان الصراع يشتد دائما بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي في المحافل الرياضية الدولية وكانت دولة مثل ألمانيا الديمقراطية بحجمها الصغير وإمكانياتها المحدودة آنذاك تهزم في المسابقات الرياضية العالمية دولا عريقة مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وبريطانيا واليابان…الخ.
وابتداء من السبعينات من القرن الماضي ظهرت الحروب الخفية في المجال الرياضي باستعمال المقاطعة الرياضية، ففي سنة 1976 قاطعت معظم الدول الإفريقية الألعاب الأولمبية احتجاجا على مشاركة نيو زيلا ندا التي كانت تقيم علاقات سياسية واقتصادية مع الأبارتيد بجنوب إفريقيا. وفي سنة 1980 قاطعت أكثر من 60 دولة الألعاب الأولمبية بموسكو احتجاجا على غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان. وفي الألعاب الموالية في سنة 1984 ردّ المعسكر الاشتراكي الصاع صاعين وتعامل بالمثل وقاطعت 18 دولة الألعاب الأولمبية التي احتضنتها الولايات المتحدة الأمريكية في لوس أنجلوس متعذرة في ذلك بانعدام الأمن.
المونديال والألعاب الأولمبية والرياضة بصفة عامة ليست فقط كما نظّر لها "بيير دي كوبرتان" وغيره، مبادئ ومثل عليا وترقية المنافسة الشريفة وتربية الشباب بواسطة الرياضة وروح التفاهم المتبادل والصداقة من أجل بناء عالم أفضل وأكثر سلما، عالم تسوده القيم الإنسانية العليا، تسوده الأخلاق والمحبة والوئام، وإنما هي كذلك مظهر من مظاهر الصراع السياسي بين دول تتنافس وتتصارع كلها من أجل إثبات أنها هي الأقوى وهي الأحسن والأجدر بالفوز. فالخوف كبير على رئيسة البرازيل أن تتبخر أحلامها في الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة إذا لم تفز البرازيل بكأس العالم وهذا أمر وارد جدا نظرا للأداء الباهت لفريق السامبا إلى حد الآن.
( الشرق 4/7/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews