تراجع جدوى صناعات يقلق البلدان المتقدمة
تواجه البلدان الصناعية منذ عقود تحديات مهمة في مسيرتها الاقتصادية إذ يتضح أن صناعات كثيرة لم تعد تحظى بالجدوى الاقتصادية ذاتها ولا تتمتع بالميزات النسبية الكافية لاستمرارها. وشملت هذه التحديات بلداناً رئيسة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان.
ويمكن أن تكون هذه التحديات نتاجاً لعوامل ذاتية وطنية مثل ارتفاع تكاليف الإنتاج، خصوصاً تكاليف اليد العاملة، أو ارتفاع تكاليف المدخلات اللازمة لهذه الصناعات أو النشاطات أو ارتفاع تكاليف الطاقة المستخدمة. لكن هناك عوامل المنافسة من بلدان أخرى وتحسن القدرات الإنتاجية في هذه البلدان، ناشئة أو نامية، بما يمكنها من غزو أسواق البلدان الصناعية بمنتجاتها ومنافسة الإنتاج المحلي بالجودة والسعر.
وتمكنت بلدان مثل كوريا الجنوبية والصين والبرازيل وبلدان أخرى في آسيا وأوروبا الشرقية من تطوير بيئاتها الصناعية والإنتاجية وممارسة دورها في التجارة الدولية خلال السنوات والعقود الماضية ما دفع البلدان الصناعية التقليدية إلى مراجعة أوضاع نشاطاتها المختلفة ومحاولة تجنب الهدر في الإمكانات والتركيز على النشاطات ذات المردود المثمر. وربما جاءت اتفاقات «غات» وما انبثق بعدها من اتفاقات وقيام منظمة التجارة العالمية لتكون أساساً مهماً في صياغة النظام الاقتصادي الدولي وتوزيع مهام العمل بين البلدان على أسس مختلفة تعزز التعاون والتكامل الاقتصادي وتعمل على تحقيق المنافسة الحرة بما يكفل حسن الأداء وضبط الإيقاع الإنتاجي.
ونتجت هذه التطورات الاقتصادية من عوامل عدة من أهمها المتغيرات في المستويات المعيشية على مدى زمني طويل والتحولات الديموغرافية المتدرجة في المجتمعات الصناعية. ولا شك في أن تحسن نوعية الحياة وارتفاع مستويات المعيشة وتطور القوانين الاجتماعية التي تعزز ضمانات العمل وكل أنواع التأمينات الخاصة بالعمال رفعت تكاليف العمليات الإنتاجية في قطاعات مهمة، في مقدمها الصناعات التحويلية، ما دفع مؤسسات وشركات إلى البحث عن مواقع إنتاجية تحقق الجدوى من النشاط خارج الحدود.
لذلك قامت العديد من الشركات المتخصصة بصناعة السيارات أو الأجهزة المعمرة والأجهزة الإلكترونية بنقل مراكز الإنتاج في بلدان أخرى تكون اليد العاملة فيها أقل تكلفة وفي ذات الوقت توفر أسواق استهلاكية لمنتجاتها. هناك العديد من الشركات الرئيسة في اليابان التي أسست فروع إنتاج في أستراليا أو ماليزيا أو الصين أو الولايات المتحدة أو غيرها من بلدان من أجل رفع درجة الكفاءة الإنتاجية. وتحررت صناعات رئيسة مثل صناعة السيارات من هيمنة الولايات المتحدة أو ألمانيا أو اليابان خلال السنوات الأخيرة بعدما أصبحت كوريا الجنوبية من أهم المصنعين والمصدرين للمركبات التي يمكن الزعم أنها لا تقل جودة أو ميزة عن كثير من السيارات المصنعة في أميركا الشمالية أو ألمانيا أو اليابان.
وتمر المجتمعات الصناعية بمتغيرات ديموغرافية مهمة منذ عقود عدة. وتبرز الآن ظاهرة ارتفاع معدلات الحياة، التي جاوزت في بلدان مثل اليابان، 80 سنة ومن ثم ازدياد أعداد من تجاوزوا الـ65 وتبلغ نسبتهم في عدد من البلدان الصناعية 15 في المئة أو أكثر. يضاف إلى ذلك أن هذه البلدان لم تعد تحقق معدلات نمو سكانية تمكن من تعويض الوفيات فلا تزيد معدلات النمو عن واحد في المئة سنوياً. وهذا التطور يعني تراجع أعداد الداخلين إلى سوق العمل وارتفاع أعداد المتقاعدين وانخفاض معدلات الاستهلاك الشخصي والعائلي.
وتؤكد دراسات أن المجتمعات الصناعية على مدى السنين الـ 150 الماضية خضعت لمتغيرات تقنية واقتصادية دفعت إلى تغيرات في السلوكيات الحياتية ساهمت في الحد من النسل وتعديل أنظمة الزواج والعائلة في بلدان عدة. ويذكر الديموغرافيون بأن الحفاظ على مستوى السكان في أي بلد يستدعي ألا يقل معدل الخصوبة للمرأة عن 2.15 طفل، لكن معدل الخصوبة للمرأة في أي بلد من البلدان الصناعية يقل عن هذا المعدل. ولذلك يشجع كثير من البلدان الصناعية الهجرة من بلدان الجنوب أو الشرق من أجل ضمان يد عاملة مناسبة في قطاعات مختلفة، خصوصاً في قطاع الخدمات. وأمنت هذه البلدان للمهاجرين حوافز لكسب الجنسية.
ويمكن الزعم أن اليابان تمثل أهم النماذج للمتغيرات الاقتصادية في البلدان الصناعية إذ أصبحت من أهم البلدان الصناعية المتطورة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتمكنت من جعل منتجاتها الصناعية المتنوعة مضاهية للمنتجات الأميركية أو الألمانية خلال زمن قصير. وحتى يومنا هذا تمثل اليابان ثالث قوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة والصين إذ بلغ ناتجها الوطني الإجمالي 5.2 تريليون دولار في 2013 ويُتوقَّع أن يصل إلى 6.2 تريليون دولار نهاية هذا العام.
ومرت اليابان بفترة عصيبة من الركود الاقتصادي على مدى زمني قارب ربع قرن، أي من منذ 1990، لكن يبدو أن الأمور بدأت بالتحسن لدرجة أن معدلات التضخم قاربت 2.1 في المئة، كما أن معدل البطالة أخذ في الانخفاض وهو يقارب 3.5 في المئة. لكن يتعين على اليابان أن تبذل جهوداً مهمة في مجال التجارة الخارجية لتعزيز صادراتها نظراً إلى أن الاستهلاك المحلي غير قابل للزيادة المطردة. ويقدر عدد السكان في اليابان هذا العام بـ 127 مليون شخص، أما معدل النمو السكاني فهو سالب بنسبة 0.7 في المئة سنوياً.
ويعزى انخفاض الاستهلاك المحلي إلى ارتفاع نسبة البالغين 65 سنة أو أكثر إلى نحو 25 في المئة من السكان. واليابان التي يبلغ معدل دخل الفرد فيها نحو 41 ألف دولار سنوياً يفترض أن تمثل سوقاً استهلاكية مهمة لكن التحولات الديموغرافية تحول دون تحقيق ذلك، وربما يبتدع اليابانيون سياسات تتجاوز الأوضاع الراهنة من خلال ما عُرِفوا به من ابتكار.
(المصدر: الحياة 2014-07-03)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews