اليمين المتطرف والأصولية الدينية... وجها أزمة ثقافية
يسعى اليمين المتطرف الجديد في فرنسا الى الهيمنة الثقافية. وهو يتخفف من العنصرية البيولوجية الفاشية التي استند اليها جان - ماري لوبان، ويرجح كفة بعض الدراسات الاجتماعية وينتزعها من سياقها الذي رفع لواء رؤية تقدمية معادية للعنصرية اثر انهيار النازية. وفي الأربعينات من القرن العشرين، ساهمت النخب اليسارية الثقافية الأميركية في «الجهد الحربي» وأعدت دراسات تيسر على قيادات الأركان والجنود فهم طرق تفكير العدو، الياباني والألماني وحتى الفرنسي. هدف هؤلاء العلماء كان نبيلاً، لكن أعمالهم خلفت بصمتها في الدراسات ما بعد الكولونيالية التي غلب على فهمها الجماعات والمجتمعات نهج «ماهوي» و»جوهري»، ولو استساغت الاختلاط والتزاوج بين الأقوام. وعلى رغم ان دارسة الإنتروبولوجيا، مارغاريت ميد، مالت الى اليسار، استخدم اليمين افكارها في الساحة السياسية.
ولا يخفى ان اليمين الجديد تكيَّف مع الحداثة في قضايا وثيقة الصلة بالعائلة والجنسانية. ويفوق عدد مؤيدي الزواج المثلي في حزب «الجبهة الوطنية» عددهم في حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية». والحزب الأول يستقطب الشباب، ومتوسط أعمار ناخبيه أدنى من غيره من الأحزاب. ويرى اليسار ان بروز حزب لوبان في فرنسا ينذر بوشك بلوغ الفاشية السلطة. لكن الرؤية هذه تفتقر الى الدقة. ولا شك في ان «الجبهة الوطنية» برعم في تربة فاشية اشتد عوده فيها. لكن خطابه تغير، ولم يعد يدور على رابطة الدم أو الأرض أو (مناوأة) الكوسموبوليتيين (المنفتحين على العالم)، بل على الثقافة والسلف والهجرة.
وكبش محرقة حزب «الجبهة الوطنية» هو الهجرة ونفوذ بروكسيل (الاتحاد الأوروبي)، وهو يلومهما على ذواء الهوية الفرنسية. وترى «الجبهة الوطنية» أن نفوذ بروكسيل يقوّض نفوذ باريس، ويطعن في قدرة الفرنسيين على التأثير في المؤسسات التمثيلية. وهذه مشكلة تمس الحاجة الى حلها من طريق تعزيز صلاحيات البرلمان الأوروبي وترسيخ ديموقراطية الاتحاد السياسي الأوروبي. لكن التشدد القومي يحول دون المضي قدماً في ترسيخ الاندماج الأوروبي.
ويقال ان ارتفاع نسبة اقتراع الناخبين الفرنسيين لـ «الجبهة الوطنية» هو رد على مد «الطوائف» وانتشاره، لكن المد هو من نسج خيال يرسخ صورة عن الضواحي الفرنسية الضعيفة الصلة بالواقع. فالمسلمون الفرنسيون ليسوا جماعة متقوقعة على نفسها تعيش في منأى من غيرها. ولا ينتدبون ممثلين عنهم على المستوى الوطني، ولم ينشئوا شبكة مدارس طائفية ولا احزاباً سياسية طائفية. وفي بعض احياء الضواحي ترتفع معدلات السرقة وترجح كفة ســـوق موازية، لكن هذه الأحياء هي كذلك بؤرة اختلاط ســـكانية وحياة اجتماعية مزدهرة. ولم يعد الناخبون في الضواحي يُقبِلون على الاقتراع لليسار، وأدركت» الجبهة الوطنية» تغير الأحوال. واللافت أن ناخبي منطقة سين- سان دينيس وحي شمال مرسيليا صاروا يقترعون لـ «الجبهة الوطنية». ووراء الظاهرة هذه إما غلبة السكان البيض على هذه الأحياء وإما ان الجيل الثاني من المهاجرين يقترع لـ «الجبهة». مثل هذا الاقتراع هو دليل على ان عجلة الاندماج والحراك الاجتماعي تدور. فالمرء قد يصادف في ادارة الضمان الاجتماعي سيدة من اصل جزائري وفي المصرف مستشاراً مالياً من اصل مغربي وفي المدارس مدرسين من اصل مغربي او في المستشفيات. وثمة قطاعات تسد الأبواب امام ابناء المهاجرين، ولكن هذه السدود تتداعى. وأعداد الأطباء المتحدرين من المهاجرين تتزايد. ووتيرة التغيير في المجتمع الفرنسي سريعة، فعدد الزيجات المختلطة يرتفع، وثمة شباب ناجح من اصل مغربي وجزائري يتبنى قيم الجمهورية ويأخذ عليها إخلالها بمبدأ المساواة، ويدعو إلى التزام مبادئها (الجمهورية). هؤلاء الشبان حين يدافعون عن انتمائهم الديني يرفعون لواء الحرية وليس الهوية الطائفية.
والحرية الدينية لا تندرج في سياق نهج التعدد الثقافي. فعلى سبيل المثال، ترمي «رابطة ابناء فرنسا» (على رأسها كامل بيشيخ) الى ترسيخ حب الوطن في نفوس الشباب المسلم. وحين أبلغني بيشيخ تقربه مع ألان سورال اليميني المتطرف، حسبتُ انني أهذي. ووفق بيشيخ، التقرب من اليمين المتطرف هو واحد من أشكال الاندماج، لكنني ارى انه يفضي الى طريق مسدود، مع ذلك هو ظاهرة لا يستهان بها. وبعض النخب المسلمة انتهازي هدفه البروز، وكثر منها التحقوا بالحزب الاشتراكي على امل حيازة مكانة رفيعة لكنهم أقصوا عن مناصب بارزة بذريعة مناوأة الطائفية، فانتقلوا الى معكسر اليمين.
ليست الأصولية الدينية ظاهرة احتجاجية ترمي الى تسليط الضوء على انتماء أو هوية، وليست تعبيراً عن ثقافة تقليدية، بل هي أزمة ثقافية من أعراضها السعي الى «صفاء» ديني. وعدد المسلمين الجدد، اي من اعتنقوا اخيراً الإسلام، هو الأكبر في وسط السلفيين. فالطوائف الدينية ترى ان الثقافة العلمانية المهيمنة تلفظها وتهمشها. لذا، تعارض اقرار قوانين مثل «الزواج للجميع». ويسعى حزب «الجبهة الوطنية» الى صوغ طائفية ثقافية من طريق تسليط الضوء على شارات انتماء فولكلوري (عادات شعبية قديمة وآفلة). ونفوذ الحزب اليميني المتطرف هذا يخبو في المراكز المدينية حيث ترتفع، شيئاً فشيئاً، اعداد السكان من البورجوازيين المسلمين، فهؤلاء مندمجون في دوائر الاجتماع المحلي. وفي أطراف المدن والأرياف ينتشر مناصرو «الجبهة الوطنية»، إذ تتعاظم هناك الشوائب في عمل الدولة، وتنعدم خدمات كثيرة. لكن أبناء المهاجرين لا يرفعون لواء الطائفية ولا يتقوقعون على أنفسهم، بل يطالبون بتدخل الدولة تدخلاً عادلاً لا يميّز بين ابنائها.
( المصدر : لوموند الفرنسية 2014-06-17 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews