«التجسس الشامل» سلاح ذو حدين يرسي الهيمنة الأميركية العالمية ويقوّض الديموقراطية
لم يخف على إدوارد سنودن حين قرر كشف كيفية تنصّت الحكومة الأميركية وحلفائها على المكالمات والتجسس على شبكة الانترنت العالمية، وتسريب وثائق وكالة الامن القومي الاميركي، أنه ينتحر اجتماعياً. فهذا الرجل كان عمله مريحاً ومجزياً، وربطته علاقة حب بشابة. وكانت لديه عائلة حاضنة وحياة رفاهية في هاواي، لكنه بدأ يعد لتمضية حياته وراء القضبان في سجن اميركي. فهو رأى ان القضية التي يناضل من اجلها تستحق التضحية بحياته. ومذ أخذ قراره، لم اسمعه يوماً يتحسر او يبدي ندماً بل سروراً لما آلت اليه الامور. فآلاف الصحف والسياسيين يسعون الى تغيير القوانين من اجل الحؤول دون استمرار التجسس الشامل. واليوم، تبحث البرازيل والمانيا في سبل منحه اللجوء، وهو بطل في عيون كثر. وفي كتابي، أستعرض وثائق سلّمني إياها سنودن، وأسلّط الضوء على ضخامة نظام رقابة وكالة الأمن القومي الأميركي، وتوسل الوكالة «بنك» معلوماته لتقويض صدقية الخصوم المحتملين. على سبيل المثل، في وثيقة داخلية صادرة في 3 تشرين الاول (اكتوبر) 2012، تتناول الوكالة قضية مراقبة 6 مسلمين يتداولون افكاراً متطرفة. والوكالة جمعت عناوين مواقع اباحية زارها هؤلاء وتسجيلات دردشات جنسية لهم. وفي الوثيقة، ناقشت الوكالة إمكان استخدام هذه المعلومات لتشويه صورة هؤلاء المتطرفين وتقويض دالتهم بين أندادهم من المسلمين، على رغم انهم ليسوا ارهابيين. وإثر هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001، حملت الصدمة أميركا على إقرار قوانين طوارئ (استثنائية) وبدء عمليات تنصت واسعة، وإنشاء سجون سرية وإرساء نظام رقابة. ولم يسعَ الرئيس باراك اوباما الى العدول عن هذه الإجراءات. فعجلة الرقابة وقوانين الظروف الاستثنائية كانت تدور، وخلصت من مطالعتي وثائق سنودن الى ان الحكومة الأميركية ارست نظاماً يرمي الى إلغاء الحياة الخاصة الإلكترونية على وجه المعمورة. فهي تجمع كل شيء، ولا يقتصر التنصت على الإرهابيين أو المشتبه فيهم. و«جمع كل شيء» هو مبدأ يلتزمه الجنرال كيث الكسندر الذي ادار وكالة الأمن القومي طوال 9 اعوام. وبدأ العمل في «مبدأه» أو نهجه هذا في العراق عام 2005، وخزّن كل الرسائل الهاتفية القصيرة، والرسائل البريدية الالكترونية وتسجيلات الاتصالات العراقية، ثم وسّع دائرة هذا النظام الى العالم كله.
وفي كتابي نشرتُ وثيقة «سنودنية» التسريب» تعود الى 2011، تظهر ان وكالة الأمن القومي التزمت مبدأ الكسندر: مخطط بالغ السرية يقترح على الحلفاء «تقويم كل شيء، والإلمام بكل شيء وجمع كل شيء والنظر في كل شيء أو تقصيه واستغلال كل شيء». وفي 2012، بلغ عدد سجلات الاتصالات التي «تعالجها» (تبحث فيها) الوكالة 20 بليوناً جُمعت من أصقاع العالم كلها. وتطفح وثائق وكالة الامن القومي برسائل تهنئة ذاتية على تطوير سبل جمع المعلومات ونجاعة التطوير.
ثمة دواعٍ اقتصادية وراء تضخم التجسس الأميركي. فمراقبة استراتيجيات الحلفاء والمنافسين الاقتصادية هي الجسر الى افضلية تنافسية لا يستهان بها. وفي وثيقة صادرة عام 2009، وجّه مساعد وزير الخارجية الأميركي، توماس شانون، رسالة شكر الى الجنرال الكسندر يشكره فيها على المعلومات التي زوّده بها وكانت له عوناً كبيراً في مفاوضات اقتصادية. وإلى الدواعي الاقتصادية، ثمة دواعٍ ديبلوماسية. على سبيل المثل، إثر شكوكه في ولائهما لأميركا، راقبت وكالة الامن القومي رسائل الرئيسة البرازيلية، ديلما روسيف، والمرشح المكسيكي الى الانتخابات، انريكي بينا نيتو. وفي وثيقة اخرى، طلبت سوزان رايس، وكانت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ومستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي، طلبت من الوكالة التنصت على مناقشة الدول الأعضاء العقوبات على ايران. وفي كتابي، أنشر عرض «باور بوينت» الذي يذهب فيه ضابط استخبارات اميركي في فرع العلوم والتكنولوجيا، الى ان برنامج التنصت والمراقبة يساهم في ارساء اسس الهيمنة الأميركية على العالم. وتحمل عناصر ثلاثة، هي «المصالح القومية والمال والاعتداد بالنفس»، اكبر قوة في العالم على مراقبة المعمورة. فنظام التجسس الشامل يساهم في ضمان الهيمنة الاميركية على العالم.
وعلى رغم خطورة ما كشفه سنودن وفداحته ووصف المستشارة الألمانية وكالة الأمن القومي بـ «ستازي» (الشرطة السرية) النازية، لم تعدل الوكالة عن رقابتها الشاملة. لكن توقع التغيير بين ليلة وضحاها ضعيف الصلة بالواقع، والتغيير المنتظر بطيء الوتيرة لكن عجلته بدأت تدور. فالكونغرس الأميركي اقترع على قوانين تسعى الى تقييد صلاحيات وكالة الأمن القومي. وإثر احتجاج قادة العالم، اضطر أوباما الى وقف التنصت على هواتفهم. وأدركت شركات الانترنت الكبيرة مثل فايسبوك وغوغل وآبل ومايكروسوفت- وهي كانت، إلى وقت قريب، تقول ان من لا يخفي شيئاً لن يقلقه اطلاع الوكالة هذا على أموره- أن تعاونها مع الاستخبارات الاميركية يخلّف آثاراً سلبية في ارباحها. ويتعاظم ادراك الأفراد ان الحاجة تمس الى حماية معطياتهم الخاصة واستخدام وسائل اتصالات مشفّرة ويطالبون الشركات بعدم التفريط بمعلوماتهم. ومساعي الأفراد هي التي ستغير الحال، فالنظام الديموقراطي يمتحن وهو على محك انحلال عقده. ومن جورج أورويل وصولاً الى ميشيل فوكو، صاحب «المراقبة والعقاب»، كثر الكلام على أخطار المراقبة المنفلتة على غاربها، من غير قيد.
( المصدر : لونوفيل أوبسرفاتورالفرنسية 2014-05-22 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews