لندن تكره وتحب أثرياءها .. لماذا؟
لندن مدينة ليست كبيرة بالحجم فقط، فرغم أفول نجم الإمبراطورية البريطانية، إلا أنها لا تزال مدينة المدن تستقطب المال والأثرياء والتكنولوجيا والشركات والناس من أنحاء العالم كافة.
عندما كنت طالبا فيها وهذا قبل نحو أربعة عقود، وأثناء زياراتي المستمرة لها بعدئذ، كان ينتابني شعور أن هذه المدينة ومعها المملكة المتحدة في طريقهما إلى الاضمحلال وبسرعة.
كان منظرا عاديا أن ترى أكوام القمامة في كثير من أحيائها وتشاهد المئات أو ربما الآلاف وهم يفترشون الشوارع ومحطات القطارت ليلا كمشردين لا مأوى لهم.
ولكن حدث ازدهار كبير في هذه المدينة في السنين الأخيرة وتحول مدهش نحو الأفضل. والسبب ليس كدّ وعرق جبين المواطنين الإنجليز من سكان لندن الأصليين الذين اليوم يشكلون أقلية من سكان هذه المدينة.
قصة نهوض لندن من مدينة كادت تهبط إلى مستوى مدينة كبيرة في دولة وسيطة التقدم إلى أكثر مدن العالم تطورا وازدهارا بدأت تحتل مكانة بارزة ليس فقط في الصحافة العالمية، بل في دراسات الريادة والاقتصاد.
لندن لم تعد مدينة أهلها ومواطنيها. إنها مدينة "محتلة" إن جاز التعبير من قبل الأجانب، لكن الأغلبية الساحقة من هؤلاء لم يحصلوا على موطئ قدم فيها إلا بعد أن أفرغوا ما في جيوبهم من مال كثير وأنفقوه في استثمارات في العقار والأسواق المالية والمصارف ودفعوا ويدفعون ضرائب كبيرة ثمن عيشهم فيها وحصولهم على رخصة الإقامة للبقاء فيها مع عائلاتهم.
قد لا تكون لندن بمثابة الفردوس في الأرض، لكن لها ميزات خاصة قد تفتقدها أغلبية المدن الكبيرة الأخرى في العالم من ضمنها شقيقات لها في دول صناعية كبرى مثل فرنسا وألمانيا وأمريكا واليابان.
نظامها القضائي رغم بعض المثالب لا يعلى عليه، والأمن متوافر، ومستوى الخدمات العامة من صحة وتعليم وغيرها راق جدا.
وكي تنقذ المدينة هذه نفسها من انكماش اقتصادي وترد في المستوى المعاشي فتحت أبوابها أمام أغنياء العالم وبدأت ببيع كل شيء ووصل الأمر إلى وضع "الإقامة الدائمية" التي يمنح صاحبها الجنسية البريطانية بعد بضع سنوات من حصوله عليها في المزاد العلني.
اليوم بإمكان أي شخص من أي مكان في العالم الحصول على "الإقامة الدائمية" التي تسمح له ولعائلته العيش في لندن أو أي مكان آخر في إنجلترا والتمتع بكل مميزات الحياة البريطانية إن كان بإمكانه شراء عقار بقيمة لا تقل عن مليون جنيه بريطاني مثلا.
وتقاطر الأغنياء على المدينة وحصلت حركة بيع قلما شهدتها بريطانيا وقلبت سوق العقار والمال على عقب بعد الأزمة المالية الخانقة، وعلى أثرها ارتفعت قيمة العقارات ليس في لندن، بل على طول وعرض البلد برمته.
وسارعت الدولة إلى اتخاذ إجراءات لمصلحتها من خلال نظام ضريبي زاد في مدخولات هذه المدينة بشكل كبير ما مكّن المسؤولين فيها من الشروع في تحسين الخدمات بشكل ملحوظ.
بريطانيا تطبق نظاما ضريبيا محكما يعد من أفضل وأعقد ما هو موجود في العالم. والأغنياء الجدد يدفعون وهم فرحون رغم أن الكثير منهم يقدم من بلدان ليس فيها اضطهاد ولا تعاني مشاكل ولا تقع في مناطق قلقة من العالم.
شراء بيت بمليون جنيه لا يعني أن المسألة تنتهي بدفعك المبلغ. هناك ضريبة الشراء والضريبة السنوية على العقار وضريبة الإقامة وضريبة أخرى إن قررت بيع العقار وضرائب على استخدام الشارع وضريبة القمامة وضريبة على الفائدة التي تحصل عليها من مدخراتك من نقد وأوراق مالية وغيرها ويعقبها التأمين بأشكاله كافة ... وإلى آخره من إجراءات ضريبية لا يتسع المجال لذكرها.
لكل سياسة ولكل إجراء إيجابيات وسلبيات. ترك البريطانيون لندنهم للأجانب الذين هم الأغلبية فيها اليوم وترك هذا غصّة وحنقا لدى الكثير منهم وبإمكانك أن تحسه وأنت تقرأ صحافة لندن الشائقة والمليئة بالحياة إلا أنك قلما ترى مشردين في الشوارع ولا تشم اليوم رائحة أكداس القمامة في بعض أحيائها.
( الاقتصادية 17/5/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews