حرب الغاز الجديدة بين روسيا وأوكرانيا
مع اشتداد المواجهة بين روسيا والغرب على خلفية ضم شبه جزيرة القرم وتطورات الأزمة الأوكرانية، فإن التلويح بعقوبات موجعة ما زال بعيداً عن الواقع.
"العقوبات الغربية الحالية قد لا تضر قدرات الاقتصاد الروسي بشكل مباشر في المدى المنظور، مما لا يشكل ضغطاً كبيراً على روسيا يجبرها على مراجعة مواقفها, لكن دخول حرب الغاز على خط الأزمة قد يخلع عليها صعوبات وحسابات معقدة"
واقتصرت العقوبات في المستوى الثاني على قوائم لمسؤولين ومؤسسات قريبة من الكرملين، لكنها لا تضر بقدرات الاقتصاد الروسي بشكل مباشر في المدى المنظور، مما لا يشكل ضغطاً كبيراً على روسيا ربما يجبرها على مراجعة مواقفها. لكن دخول حرب الغاز على خط الأزمة قد يخلع عليها صعوبات وحسابات معقدة.
تلوح في الأفق حرب غاز جديدة بين روسيا وأوكرانيا، ورغم التطمينات من الطرفين فإن الاتحاد الأوروبي يحبس أنفاسه من مخاوف انعكاس الجولة الجديدة المنتظرة من حرب الغاز، بين الجارتين السوفياتيتين القديمتين، على إمدادات الغاز التي تعطلت مرتين خلال السنوات الماضية في 2006 و2009.
وفيما يملك الكرملين أوراق ضغط كبيرة، أهمها اعتماد الاتحاد الأوروبي بشكل كبير على الغاز والنفط الروسيين، فإن عيون موسكو ترنو إلى عقد اتفاق مع الصين لاستكمال صفقة غاز ضخمة يجري الحديث بشأنها منذ نحو عشر سنوات، لتحقيق توازن في مبيعات مصادر الطاقة بين السوق الأوروبية التقليدية وسوق آسيا والمحيط الهادي الواعدة.
وباندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة ودعت روسيا معدلات النمو الكبيرة، التي بلغت وسطياً قرابة 7% منذ العام 2003.
ولا يكف الخبراء الروس والدوليون من التحذير بأن نموذج النمو الاقتصادي السريع، المعتمد على ارتفاع أسعار الطاقة، ولى إلى غير رجعة. ويشدد الخبراء على ضرورة إيجاد نموذج تنمية جديد يعتمد على تحسين بيئة الأعمال وتشجيع الاستثمارات، ومكافحة الفساد والبيروقراطية، وزيادة حصة قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد.
ورغم أن العقوبات الغربية ما زالت محدودة، عدَّل صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد الروسي مرتين في أبريل/نيسان الماضي، وخلص الصندوق في آخر تقاريره إلى أن روسيا سوف تشهد ركوداً تضخمياً مع نمو لا يتجاوز 0.2% في العام الحالي، وارتفاع التضخم فوق 7%.
وربط صندوق النقد توقعاته بالأوضاع الجيوسياسية المرتبطة بالأزمة المتصاعدة في أوكرانيا، وإمكانية اتساع العقوبات الغربية على روسيا في المرحلة المقبلة، مع توقع تراجع فائض الموازنة، ناهيك عن نزوح قرابة مائة مليار دولار من رؤوس الأموال في العام الحالي.
وتراجعت الاستثمارات إلى مستويات غير مسبوقة. كما تراجع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى أقل من الثلث منذ بداية العام الحالي، وهوت الاستثمارات من 37.1 مليار إلى 11.9 مليار دولار. ورغم محاولات المصرف المركزي الروسي تثبيت سعر صرف الروبل، عبر عرض مزيد من العملات الأجنبية في السوق، فإنه يراوح عند أدنى مستوياته منذ خمس سنوات.
توافق سياسي واختلاف في النظرة الاقتصادية
فيما يتفق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على خطورة ما أقدمت عليه روسيا في القرم ومناطق شرق أوكرانيا، يختلف الطرفان حول الخطوات الواجب تبنيها، وأخفقت بلدان الاتحاد الأوروبي في التوافق حتى الآن على حزمة عقوبات موجعة لروسيا.
"فيما يتفق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على خطورة ما أقدمت عليه روسيا في القرم ومناطق شرق أوكرانيا، يختلف الطرفان حول الخطوات الواجب تبنيها، وأخفقت بلدان الاتحاد الأوروبي في التوافق حتى الآن على حزمة عقوبات موجعة لروسيا"
لكن تطور الأحداث بعد ضم القرم وتثبيته قانونياً، وانتقال شرارة الأحداث إلى جنوب وشرق أوكرانيا على نحو يهدد الخريطة السياسية في أوروبا، سوف يجعل القادة الأوروبيين أمام خيارات صعبة، خاصة في حال نجاح موسكو في عرقلة إجراء الانتخابات الرئاسية الأوكرانية المقررة في 25 مايو/أيار الحالي، وقيام روسيا بتنفيذ تهديداتها بوقف ضخ الغاز إلى أوكرانيا في بداية الشهر المقبل، في حال عدم قدرة كييف على سداد الديون والانتقال إلى صيغة الدفع المقدم.
وتنذر التطورات -في حال حصولها- بإصابة أمن الطاقة الأوروبي بخلل خطير. إذ تستورد أوروبا قرابة ثلث حاجتها من الغاز الطبيعي من روسيا.
وإذ تستعجل الولايات المتحدة فرض عقوبات على الروس، تبدو أوروبا منقسمة حيال هذا الموضوع، وتفضل التعامل بحذر، ودراسة أي خطوة من حيث تأثيراتها على الاقتصاد الأوروبي.
وفي نهاية الشهر الماضي، لوح الرئيس الأميركي باراك أوباما، إثر اجتماعه بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بفرض عقوبات على قطاعات كاملة من الاقتصاد الروسي، بعدما اقتصرت العقوبات حتى الآن على قوائم تضم شخصيات مقربة من الرئيس فلاديمير بوتين.
وإذا كانت العقوبات الغربية الحالية -على محدوديتها- تسببت في تراجع الاقتصاد الروسي، فإن المضي فيها، وتحويلها إلى عقوبات موجهة ضد القطاع المصرفي على سبيل المثال، قد يؤدي إلى جرِّ القطاع المصرفي الأوروبي إلى أزمة.
فحجم قروض المصارف الروسية لنظيراتها الأوروبية يتجاوز 187 مليار يورو، مما قد يتسبب في أزمة جديدة، بينما ما زالت منطقة اليورو تعاني من نتائج الأزمة السابقة بشكل ملموس.
في المقابل، فإن سلاح الطاقة له حدان، وفي حال قررت روسيا وقف صادرات النفط والغاز إلى أوروبا فإن الأسعار سوف ترتفع إلى مستويات يصعب توقعها، مما سيخفض معدلات النمو في أوروبا والعالم.
لكن روسيا سوف تخسر أكثر من ثلثي واردات الخزينة المتأتية من صادرات الطاقة. وفيما يبلغ حجم التبادل التجاري بين موسكو وأوروبا 370 مليار دولار، فإن حجم التبادل التجاري بين روسيا والولايات المتحدة محدود جداً، ولا يتجاوز 26 مليار دولار.
لذلك، واشنطن مستعدة لفرض عقوبات مباشرة على روسيا، لأن اقتصادها لا يعتمد على مصادر الطاقة الروسية. لكن فرض عقوبات من دون التنسيق مع أوروبا يضر بمصالح رجال الأعمال الأميركيين.
علاقات الطاقة والدور الأوكراني
تعد روسيا أكبر شركاء الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة. وبمراجعة بعض المؤشرات تبرز أهمية دور الطاقة في علاقات الطرفين. فأوروبا تعتمد على روسيا في قرابة 36% من واردات الغاز الطبيعي، و31% من النفط، و30% من الفحم. في الوقت ذاته تبلغ حصة أوروبا من صادرات النفط الروسية حوالي 80%، و70% من الغاز، ونصف صادرات الفحم الروسي. وفي حال توسع الخلاف بين الطرفين، على خلفية الأزمة الأوكرانية، قد تطرأ تغيرات كبيرة على هذه المؤشرات لتطاول أسواق الطاقة العالمية.
"أوروبا تعتمد على روسيا في قرابة 36% من واردات الغاز الطبيعي، و31% من النفط، و30% من الفحم، في الوقت ذاته تبلغ حصة أوروبا من صادرات النفط الروسية حوالي 80% ، و70% من الغاز، ونصف صادرات الفحم الروسي "
وبعد الإنذار الروسي بوقف ضخ الغاز إلى أوكرانيا، والانتقال إلى صيغة الدفع المقدم أو المسبق، يمكن أن تزداد الأزمة تعقيداً، خاصة أن أوكرانيا تحتاج إلى قرابة 55 مليار متر مكعب من الغاز، يأتي قرابة 60% منها من روسيا. ولا تستطيع كييف تلبية حاجاتها كاملة من مصادر أخرى، مثل إعادة استيراد الغاز الروسي من دول الاتحاد الأوروبي بالنقل العكسي.
كما أن شبكة النقل الأوكرانية ما زالت تنقل قرابة 80% من الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا، ولن تستطيع موسكو الاستغناء عن خدمات كييف في هذا المجال، حتى بعد مضاعفة الطاقة الاستيعابية لخط السيل الشمالي (نورث ستريم) إلى 55 مليار متر مكعب، وبناء خط السيل الجنوبي (ساوث ستريم) وتشغيله بالطاقة القصوى، البالغة 63 مليار متر مكعب سنوياً.
وتخشى أوروبا من تكرار جولات حرب الغاز بعدما عانت مرتين في السابق، ولا سيما أن ستة بلدان أوروبية تستورد كامل حاجتها من الغاز من روسيا، وفي العام الماضي بلغت حصة شركة غازبروم الروسية 30% من حجم السوق الأوروبية.
وتحذر روسيا من احتمال اقتطاع أوكرانيا -بطريقة غير شرعية- كميات من الغاز المخصص للترانزيت إلى أوروبا، أو عدم كفاية الغاز لتشغيل محطات ضخ الغاز في أوكرانيا.
التوجه نحو الصين
وفي ظل إدراك موسكو أن أوروبا تسعى جاهدة لتخفيف اعتمادها على الغاز والنفط الروسيين، وأن الأزمة الأوكرانية تدفع الاتحاد الأوروبي إلى الإسراع في إيجاد حلول لميزان الطاقة، والحد من تبعيته لروسيا في مجال الطاقة فإن روسيا اختارت التوجه شرقاً صوب الصين.
وفي منتصف الشهر الحالي من المنتظر زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى بكين. وسيضم الوفد الروسي رؤساء كبريات شركات الطاقة في البلاد، ومن المتوقع أن يضع الجانبان نهاية لمباحثات متواصلة منذ عشر سنوات حول اتفاق توريدات الغاز الطبيعي.
وليس خافياً أن الجانب الصيني يدرك أنه في وضع قوي ومناسب لفرض شروطه بناء على حاجة روسيا لتنويع صادراتها من الغاز والنفط، بين الشرق والغرب، تحسباً لعقوبات قد تفرضها بروكسل. وتسعى روسيا إلى التوصل لتفاهمات لعقد بين "غازبروم" والصين لتصدير 38 مليار متر مكعب سنوياً لمدة ثلاثين عاماً.
رئيس شركة غازبروم أليكسي ميلير أشار إلى أن تقدماً حصل في المفاوضات مع شركة "سينوبيك" الصينية لإنهاء التفاصيل التقنية قبل زيارة بوتين.
وفي المقابل لا يبدي الجانب الصيني اهتماماً فوق العادة بالصفقة، لإدراكه أن روسيا في موقف أضعف، وتبحث عن بدائل في حال تطور العقوبات الغربية، وأنها لن تستطيع بسهولة اختراق أسواق اليابان وكوريا الجنوبية، التي رتبت علاقاتها مع مصدرين آخرين للغاز وخاصة في الخليج العربي.
وتتوقع بكين أن سول وطوكيو سوف تنضمان إلى جهود واشنطن لعزل روسيا، وفرض عقوبات عليها على خلفية الأزمة الأوكرانية. كما تعي الصين أن اعتماد روسيا على صادرات الغاز والنفط إلى أوروبا أكبر من الضرر الذي يمكن أن يلحق بأوروبا في حال قررت المضي بالعقوبات.
وعلى الأرجح فإن الصين سوف تستغل الأوضاع الحالية لإعادة التفاوض بشكل كامل والحصول على حسومات كبيرة في أسعار الغاز. ورغم أن حاجة الصين إلى الغاز تزداد بشكل واضح، ومن المتوقع أن تعاني نقصاً في المستقبل القريب، غير أنها تراهن على زيادة صادراتها من آسيا الوسطى، وخاصة تركمانستان التي دخلتها بقوة في السنوات العشر الأخيرة، وكذلك إيران في حال رفع العقوبات، إضافة إلى ضخها استثمارات ضخمة في أفريقيا.
ويطمح صناع القرار في موسكو إلى تطوير العلاقات الاقتصادية بين روسيا والصين بشكل كبير.
"الاستثمارات الصينية المباشرة في روسيا لا تتجاوز 4.5 مليارات دولار، ورجال الأعمال الروس لا يستثمرون أكثر من 2.5 مليار في الصين, وحجم التبادل التجاري ضئيل ولم يتجاوز تسعين مليار دولار في العام 2013"
وبلغة الأرقام فإن الاستثمارات الصينية المباشرة في روسيا لا تتجاوز 4.5 مليارات دولار، ورجال الأعمال الروس لا يستثمرون أكثر من 2.5 مليار في الصين. وحجم التبادل التجاري ضئيل ولا يتجاوز تسعين مليار دولار في العام 2013.
وبالمقارنة فإن حجم التبادل بين الصين والاتحاد الأوروبي يصل إلى 540 مليار دولار، ومع الولايات المتحدة إلى 500 مليار. وما زالت أوروبا تستأثر بقرابة 85% من حجم التبادل التجاري الروسي.
ولهذا فإن مضاعفة الأرقام بين روسيا والصين ممكنة بسهولة في غضون عام واحد. لكن كل هذا يبقى رهناً لموقف بكين، التي يبدو أنها سوف تتأنى في تقييم الأوضاع للخروج بأكبر المكاسب من صراع الغرب مع روسيا مما يضع روسيا أمام مأزق مزدوج في التصدي لاحتمال زيادة العقوبات الاقتصادية ضدها، وفي البحث عن بدائل.
وهذا المأزق سيعكس نفسه بشكل أو بآخر في حرب الغاز الجديدة مع أوكرانيا، حيث لن تنحصر التأثيرات بين الطرفين. فليس من المستبعد أن تضغط تداعياتها السياسية والاقتصادية على عصب العلاقات الروسية مع أوروبا والولايات المتحدة.
( الجزيرة 8/5/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews