هل لدى الصين ما تقدمه لإحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟
حضور الصين على مسرح السعي لإيجاد تسوية سلمية للقضية الفلسطينية، في دور اللاعب الرئيسي، يمثل تغيرا جوهريا في سلوك الدبلوماسية الصينية، لكننا يجب أن لا نعول كثيرا على هذا الحضور في الوقت الراهن، من حيث التأثير في السلوك العدواني الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، والقبول بمفاوضات جادة من أجل تسوية سلمية عادلة. وتشير متابعة السلوك الإسرائيلي إلى أن انتقال محور القوة السياسية إلى اليمين بشدة، يخبرنا أن تأييد تيار اليمين الصهيوني الديني المتطرف لن ينحسر، إلا إذا ترتبت على ذلك تكلفة سياسية عالية داخليا بين الإسرائيليين أنفسهم، وزيادة تكلفة المواجهات مع الفلسطينيين. أما فكرة أن تقبل الحكومة الإسرائيلية طوعا بالمشاركة في مفاوضات على أسس «الأرض مقابل السلام» و»حل الدولتين» و»إقامة تعايش فلسطيني – إسرائيلي»، فإنها تتمتع بفرصة ضئيلة جدا، أو ربما مستبعدة تماما في الوقت الحاضر.
كما أن عقد مؤتمر دولي موسع، لوضع إطار لمفاوضات مباشرة إسرائيلية – فلسطينية، وهي الفكرة التي طرحتها بكين، وأعلنت انها ترحب باستضافته، فإنها فكرة قديمة غير ناجحة، تمت تجربتها عدة مرات وفشلت، على الأقل في مؤتمر «مينا هاوس» في مصر (1977)، وفي مؤتمر «مدريد» في إسبانيا (1991) وتصطدم هذه الفكرة حاليا بسياسة الولايات المتحدة لعزل الصين دوليا والحرب الباردة بين الدولتين. وتحتاج الدبلوماسية الصينية أولا أن تعمل على إنضاج مواقف قوى رئيسية أخرى، لإقناعها بأن المؤتمر الدولي فكرة عملية ولها نتائج مثمرة. وتأتي دول الاتحاد الأوروبي، بما فيها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، على رأس الدول التي يجب التواصل معها في هذا السياق، إلى جانب النرويج والسويد. كما يجب ضم روسيا وأطراف إقليمية رئيسية مثل السعودية ومصر وتركيا وإيران. وللنجاح في ذلك فإن الخطة الصينية تحتاج إلى مهارات دبلوماسية عالية جدا من أجل تحقيق اختراق حقيقي.
الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الصين، بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ لمدة أربعة أيام (13- 16 حزيران/يونيو 2023) لم يكن الغرض منها مجرد رفع العلاقات الثنائية بين الصين وفلسطين إلى «شراكة استراتيجية»، لكنها كانت لاستطلاع فرص إقامة سلام فلسطيني – إسرائيلي، يفتح الباب لعصر جديد من السلام في الشرق الأوسط. بالطبع فإن «الشراكة» تمثل جائزة من الصين إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، لكن هذه الشراكة يمكن أن تنتهي إلى مجرد شكل من أشكال تحسين ظروف المعيشة للفلسطينيين، الذين يعانون من الاحتلال والممارسات العدوانية الإسرائيلية 24 ساعة في اليوم، كل يوم. وفي كل الأحوال، فإن إعادة فتح ملف التسوية السلمية بواسطة الصين يكتسب أهمية كبيرة، خصوصا في ظل التحولات التي يمر بها الشرق الأوسط والعالم، وهي التحولات التي تلعب فيها الصين دور المحرك الرئيسي، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تفتح الشراكة الاستراتيجية الصينية – الفلسطينية باب مفاوضات جادة للتسوية السياسية المستعصية؟
الثقة المتبادلة مع الفلسطينيين
تتمتع الصين بعلاقات تاريخية إيجابية مع الفلسطينيين، فقد كانت من أوائل دول العالم التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، ودولة فلسطين، وأقامت علاقات دبلوماسية مع السلطة الوطنية الفلسطينية. كما أن الصين في الوقت نفسه لها مصالح قوية مع دولة إسرائيل. ويبدو أن نجاحها في مبادرة استئناف العلاقات السعودية – الإيرانية المقطوعة منذ عام 2016 فتح شهيتها لأن تخطو باتجاه تحديات أخرى مثل الحرب الأوكرانية والقضية الفلسطينية. وفي هذا السياق استضافت رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ليكون أول رئيس عربي يزور الصين في عام 2023، بغرض تمهيد الطريق لإيجاد حل دبلوماسي للقضية التي تعتبر المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط؛ فهي أقدم من الإرهاب وأشد خطورة. كما أن دعوة الرئيس الفلسطيني إلى بكين، تتوافق أيضا مع مبادرة الصين للأمن العالمي (Global Security Initiative)، التي تقوم على أساس تنحية الصراعات الجيوسياسية، لمصلحة التعاون من أجل التنمية.
خريطة طريق من 3 نقاط
وخلال اللقاء بين الرئيسين الصيني والفلسطيني، رسم شي جين بينغ، خريطة طريق من ثلاث نقاط للتوصل إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية. النقطة الأولى، إن الهدف الرئيسي من التسوية، هو إقامة «دولة فلسطين المستقلة»، تتمتع بسيادة كاملة، داخل حدود عام 1967، وأن تكون القدس الشرقية هي عاصمتها. وهي نقطة تلتقي مع مبادرة السلام العربية، لكنها تتناقض مع السياسة الإسرائيلية. النقطة الثانية هي ضرورة الوفاء باحتياجات الفلسطينيين الاقتصادية والمعيشية، التي تضمن لهم مستوى لائقا من الحياة بين جيرانهم. وهي نقطة تتفق مع «صفقة القرن» التي أعلنها ترامب وكانت الأساس لاتفاقيات التطبيع الجديدة على أساس مبدأ نتنياهو: «السلام مقابل السلام». أما النقطة الثالثة فتتمثل في المحافظة على سير مفاوضات السلام في الاتجاه الصحيح. وهي نقطة تصطدم بالشكوك المتبادلة وعدم الثقة بين الطرفين الرئيسيين في الصراع. ومن أجل أن تتحول هذه النقاط الثلاث إلى خطة عملية، قال الرئيس الصيني إنه من الضروري عقد مؤتمر دولي موسع للسلام، بتفويض محدد، لوضع الشروط الضرورية لاستئناف المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وفلسطين.
وتؤكد الصين أنها لا تسعى إلى تحقيق مصالح خاصة في المنطقة، وإنما إلى مساعدة الأطراف المعنية والمنطقة ككل على إقامة سلام إقليمي، يشجع على التعاون والتنمية. وفي هذا السياق فإنها لا تعتبر الصين دورها في حل القضية الفلسطينية دورا «حصريا»، وإنما تركت الباب مفتوحا أمام قوى أخرى، أهمها الولايات المتحدة، للمشاركة في عملية صنع السلام. قال لي ويغيان نائب رئيس الجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط، في تصريح لصحيفة «غلوبال تايمز» إن الولايات المتحدة بعلاقتها الخاصة مع إسرائيل يمكنها أن تلعب دورا مهما في إحلال السلام في المنطقة. لكن المسؤولين والخبراء في واشنطن وتل أبيب لا يتفقون مع فرضية أن الصين لا تعمل من أجل تعزيز مصالحها الخاصة في الشرق الأوسط. وتتبنى إسرائيل وجهة نظر تعتبر أن سعي الصين للعب دور في إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية، يمثل تحديا جوهريا لنفوذ الولايات. وقالت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» إن الدور الصيني يسبب حساسية وقلقا في الولايات المتحدة.
تحديات تعترض الدور الصيني
أهم التحديات التي تواجه الدور الذي تتطلع الصين أن تلعبه في التسوية السياسية للقضية الفلسطينية أن هذه القضية أصبحت منذ يونيو 1967 ملعبا أمريكيا بامتياز، وأن النفوذ الحصري للولايات المتحدة في جهود التسوية تجلى في عدد كبير من المبادرات، التي تلاشت من دون أثر تقريبا، واحدة بعد الأخرى بدءا من مبادرة روجرز في كانون الأول/ ديسمبر 1969 حتى جاء هنري كيسنجر بمبادرة الفصل بين القوات بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 التي مهدت لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. وسوف تعتبر واشنطن أن دخول بكين على خط التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، يمثل تهديد لنفوذها في الشرق الأوسط، ومحاولة لتقويض استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في هذه المنطقة من العالم. ومما يزيد من التحديات التي تواجه الدور الصيني في تسوية القضية الفلسطينية، أن هذا الدور يبدأ من رؤية تقليدية، ربما تكون قد تجاوزتها الحقائق على الأرض. ومن أجل توفير أرضية نجاح لهذا الدور يجب أن تكون الدبلوماسية الصينية منفتحة على أفكار وحلول أخرى عملية، يمكن أن تحقق أهداف السلام الإقليمي، والتعايش السلمي والتعاون بين شعوب المنطقة، بما فيها الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي؛ فالعبرة هنا هي بالهدف المراد تحقيقه، وهو ما يتطلب القبول بمبدأ المرونة العملية في اختيار الصيغة التي يمكن عن طريقها تحقيق الهدف. ومن الصعب الحكم لصالح خطة الصين، تأسيسا على نجاحها في رعاية مبادرة استئناف العلاقات السعودية – الإيرانية. هذا النجاح ارتبط بأربعة عوامل جوهرية: الأول هو المجهود السياسي السابق للتقريب بين طهران والرياض، بواسطة سلطنة عمان والعراق، والثاني هو التغير الدرامي في اتجاه السياسة الخارجية السعودية نحو فك الارتباط الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، والثالث هو اتجاه السياسة الإقليمية الإيرانية للعمل على التهدئة وتحسين علاقاتها مع الدول المجاورة، لقطع الطريق على السياسة العدوانية الأمريكية – الإسرائيلية. أما العامل الرابع فهو استقلال طرفي النزاع وحرية كل منهما في اتخاذ القرار، من دون الخضوع لتدخل خارجي. هذه العوامل تناظرها عوامل على النقيض منها في مسار التسوية السياسية الفلسطينية – الإسرائيلية، مثل انتقال إدارة الصراع ضد الفلسطينيين إلى التيار الصهيوني الديني المتطرف، وانحياز الولايات المتحدة لإسرائيل، واختلال التوازن السياسي الفلسطيني في غير مصلحة السلطة الوطنية، وزيادة مستوى التدخل الخارجي في صياغة الموقف الفلسطيني، واطمئنان إسرائيل إلى عدم تحملها تكلفة باهظة مع استمرار نهجها الحالي في التوسع الاستيطاني وتهجير الفلسطينيين أو قتلهم.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews