هل الموقف السلبي البريطاني من الصين ضرورة أم اختيار؟
قبل بضعة أسابيع طلبت الحكومة البريطانية من الصين إغلاق ما يسمى (مراكز الشرطة) السرية العاملة في المملكة المتحدة، التي تقول إنها تُستخدم لملاحقة المعارضين، وقد اعتبرت السفارة الصينية في لندن أن تلك اتهامات كاذبة، مؤكدة (أنه لا يوجد ما يسمى بأقسام للشرطة في الخارج).
يبدو بوضوح التدهور الذي ران على العلاقات بين البلدين خلال الأعوام الأخيرة، فقد اعتبر آخر تقرير استخباراتي بريطاني، الصين إحدى الدول، التي تقع على رأس التحديات الأمنية التي تواجهها بريطانيا على أراضيها، وليس فقط في الخارج. ويرى صانع القرار الأمني البريطاني أن التحدي الصيني كان موجودا، لكنه بدأ يتمظهر ويتجلى بشكل أوضح من قبل. ويعزو ذلك إلى أن الصين منزعجة للغاية من الموقف البريطاني بشأن ملفي تايوان وهونغ كونغ، اللذين يشكلان صلب الخلافات بينهما، بالإضافة لقضايا تتعلق بحقوق الإنسان في الصين، ولم تكن المواجهات التي شهدها محيط القنصلية الصينية في مانشستر في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2022، بين موظفين من القنصلية ومتظاهرين مطالبين بالديمقراطية، إلا مؤشرا على حجم التحديات التي تواجهها العلاقات بين البلدين. وهنا يقول بعض الخبراء المختصين بالسياسات الأمنية، بأن السياسات البريطانية المنطلقة من نظرة استعلائية، هي التي تدفع الصين وغيرها إلى التدخل في الشؤون الداخلية البريطانية كرد على ذلك.
وتتضح حالة التناغم ما بين رؤية صانع القرار الأمني وصانع القرار السياسي في بريطانيا في الموقف تجاه الصين. فلو عدنا إلى التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك، أثناء اللقاء الثلاثي الذي جمعه مع الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الأسترالي، في كاليفورنيا في 13 مارس/آذار العام الجاري، قال سوناك إن (الصين دولة تختلف قيمها تماما عن قيمنا، وهي تمثل تحديا للنظام العالمي، يجب أن ننتبه لهذا ونتخذ خطوات لحماية أنفسنا ومصالحنا). وهنا تتضح طبيعة النظرة الغربية للقيم الصينية، كقيم دونية يجب التحصن ضدها، مقابل التثقيف بعلو القيم الغربية والعمل على سيادتها في العالم. وهذا النظرة لا يمكن في أي حال من الأحوال اعتمادها كأساس في العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين، لأن السؤال سيكون، هل يعني ذلك وجوب معاداة الدول الأخرى فقط لأن قيمها تختلف عن قيم الغرب؟ طبعا هذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها رئيس الوزراء البريطاني عن الصين بلهجة عدائية، ففي أول خطاب له عن السياسة الخارجية للبلاد بعد تسمنه المنصب قال، (لا عهد ذهبي للعلاقات مع الصين بعد الآن، وأن العلاقات الاقتصادية الوثيقة معها كانت ساذجة). وكان يقصد الفترة التي اتسمت بها سياسات رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون تجاه الصين. وأضاف (ندرك أن الصين تشكل تحديا منهجيا لقيمنا ومصالحنا. وهو تحد يزداد حدة) لكن قبل ذلك كان خطابه في قمة مجموعة العشرين يناقض أقواله هذه، حيث قال إنه ليس لديه نية لاعتبار الصين تهديدا للأمن القومي، وإنها جزء أساسي من اقتصاد العالم، وينبغي إجراء حوار معها لمواجهة التحديات العالمية المشتركة. ويبدو أن مرد هذا التناقض سببه تبعية السياسة الخارجية البريطانية إلى صانع القرار السياسي الأمريكي. فهنالك وجهة نظر أمريكية تقول بأن الصين حصلت على تسهيلات بريطانية كثيرة. وفُتح الطريق لدخول ملايين السياح الصينيين، ومئات الآلاف من الطلاب إلى الجامعات البريطانية. كما حصلت على استثمارات من دون رادع، ومشاريع اقتصادية كبرى. والآن عليكم أن تغيروا هذا الموقف لأنه نوع من سيادة قيم ليست ديمقراطية غربية. أما السبب الثاني فهو وجود تيار داخلي يضغط باتجاه استمرارية التبعية للولايات المتحدة الأمريكية. ويتشكل هذا التيار من عدد كبير من نواب حزب المحافظين الحاكم، ورجال أعمال وإعلام، كانوا جميعا قد عابوا على سوناك ما وصفوه بالمواقف اللينة الصادرة عنه تجاه الصين. ومن هنا يصبح الموقف السلبي البريطاني تجاه الصين ضرورة تفرضها واشنطن، وليست خيارا بريطانيا يعتمد على مصالح المملكة المتحدة. وبذلك تكون تصريحات سوناك ضد الصين بادرة حسن نية للغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، فهل من موقف صيني يتعامل مع هذا التحدي الصادر عن لندن؟ لن تتوانى بكين عن التعامل بحدة وتصادمية مع الجانب البريطاني، ولاسيما بعد العديد مما تعتبره انتهاكات بريطانية بحقها، مثل استدعاء السفير الصيني في لندن عدة مرات من قبل وزارة الخارجية البريطانية، حدث ذلك بعد تمرير قانون الأمن في مقاطعة هونغ كونغ في أول يونيو/حزيران العام 2019. وحصل استدعاء آخر في 22 أغسطس/آب 2022. واستدعاء ثالث بعد التدريبات والمناورات العسكرية الصينية في شبه جزيرة تايوان. كما حصلت استدعاءات متعددة أثر استخدام أمن السفارة الصينية في لندن للعنف ضد المتظاهرين أمام القنصلية الصينية في مانشستر، لكن أكثر ما استفز الجانب الصيني هو استخدام عدد من وسائل الإعلام البريطانية تعبير رجل آسيا المريض، كوصف للصين في ذروة انتشار جائحة كورونا. وهو ما ردت عليه بكين بسحب بطاقات الهوية الصحافية لخمسة صحافيين بريطانيين وطردهم من أراضيها. أيضا تشعر الحكومة الصينية بأن هناك تراكمات حصلت بين الطرفين، لاسيما بعد توقيع اتفاقية (أوكوس) الدفاعية بين استراليا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى فيها تهديدا لأمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ (الأندوباسفيك). أما في الجانب الاقتصادي فإن بكين لن تُعير اهتماما كبيرا للدعوة البريطانية لمنعها من استغلال الأسواق الأوروبية، لأنها واثقة من أنه لا يمكن لأحد طرد استثماراتها في الجانب الأوروبي بشكل كامل، فالحكومة الصينية لديها استثمارات ضخمة في كل الموانئ الأوروبية تقريبا، في اليونان، إيطاليا، ألمانيا، بلجيكا، وحتى في الولايات المتحدة. وهي تملك حصصا وأسهم كبيرة جدا في هذه الموانئ. إذن لا يمكن طرد الجانب الصيني مرة واحدة من العواصم الأوروبية، لاسيما أن الاتحاد الأوروبي قام بعقد اتفاقية اقتصادية شاملة مع بكين، وتجاهل تحذيرات الولايات المتحدة بعد فوز بايدن. كما أن الاستثمارات الصينية لم تقتصر على هذا المجال فقط بل تعدتها إلى مجالات عديدة. فهنالك 17 مدرسة خاصة صينية في بريطانيا، تقدم التعليم الصيني، فضلا عن استثمارات صينية جديدة في مجال الطاقة النووية، والتعليم التكنولوجي، وفي قطاعات النفط والغاز في بريطانيا، وهنالك تغلغل سياسي صيني في مجلس العموم البريطاني، ولها علاقات وثيقة مع عدد من النواب، واستطاعت تكوين لوبي قوي يدافع عن مصالحها في المملكة المتحدة، فهل بعد ذلك يمكن لبريطانيا الاستغناء عن الاستثمارات الصينية وإحلال دول أخرى كالهند مثلا؟ طبعا لا. فتوقعات النمو الدولي في عام 2050 تشير إلى أن الصين ستكون في قمة الصدارة كحجم اقتصاد، ثم الهند فالولايات المتحدة الامريكية. وعليه فإن النظرة المستقبلية للخبراء الاقتصاديين في بريطانيا تقول، إن الصين والهند هما المستقبل. كما أن الساسة البريطانيين من حزب المحافظين، كانوا قد صمموا فلسفة البريكست للإفلات من أوروبا وقوانينها مقابل جذب دول العالم الأخرى. لذا ستكون الصين والهند والسعودية وغيرها قدر بريطانيا المستقبلي والذي لا يمكن التهرب منه.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews