العصر الذهبي الصيني آت
للنجاح الاقتصادي شروط أهمها المثابرة واعتماد السياسات المناسبة وتنفيذها بدقة. من أهم ملامح الاقتصاد الصيني اليوم التغيرات المستمرة المدفوعة من القطاع الخاص خاصة من الأعمال المبدعة الجديدة. سمحت الحكومات الصينية لقطاع الأعمال بالازدهار عبر تأمين المناخ السياسي والقانوني كما المؤسساتي المناسب. تميز الصينيون مؤخرا في الإبداع الحقيقي بعد سنوات من الجمود الذي سببته العقائد السياسية الشمولية المطبقة منذ الأربعينيات. في الثمانينيات، كان الصينيون فقراء والشركات صغيرة إذ لم يكن بالإمكان توريث الثروة أو نقلها عبر الأجيال. تغيرت الشروط القانونية بفضل وعي القيادات، مما سمح للصينيين بتحقيق النجاح المادي الفردي وحتى تجميع الثروات. في سنة 2010، كتبت مجلة "فوربس" أن هنالك 64 مليارديرا صينيا من دون هونغ كونغ التي تضم وحدها 25 مليارديرا. وقعت الصين في المركز الثاني من حيث العدد وراء الولايات المتحدة التي ضمت 403 مليارديرات أي 40% من المجموع العالمي. هنالك أكثر من 4 آلاف ناطحات سحاب في شنغهاي. توسع حجم الوحدة السكنية للفرد في الريف الصيني من 13.5 متر مربع في سنة 1989 إلى 31.6 في سنة 2007.
استثمارات البنية التحتية
استثمرت الحكومات الصينية في البنية التحتية والاقتصادية لتسهيل عمل الشركات. اعتمدت السياسات الاقتصادية التي حققت الاستقرار الضروري للاستثمارات والنمو، خاصة تلك التي وضعت في عهد "دينغ سياو بينغ". لم تعرف الصين أزمات مالية كالتي عرفها الغرب لا في حدتها ولا في عمقها وامتداداتها. من الأسباب الأساسية للحماية أنه من غير المسموح للمؤسسات المصرفية والمالية أن تعتمد المخاطر التي سببت إفلاسات كبيرة لها ولعملائها في الغرب. القوانين الصينية تقيد أعمال المصارف في حجم قروضها وأدوات الأعمال، مما يجنبها كما الاقتصاد عموما الخسائر الكبرى. هنالك من يقول إن القوانين تحكم الولايات المتحدة الأمريكية، بينما الشعب هو الذي يحكم الصين. ما هي المشاكل الأساسية التي مازالت تعاني منها الصين؟
أولا: الفساد الذي يمتد إلى كافة مؤسسات الدولة، يؤثر الفساد سلبا على سوء توزع الدخل والثروة بين الطبقات الشعبية. في مؤشر "الشفافية الدولية"، تقع الصين في المرتبة 75 أي وراء البرازيل وإيطاليا وغانا ودولة إفريقيا الجنوبية مما يشير إلى عمق المشكلة وصعوبة بل ضرورة المعالجة. النجاح الاقتصادي لا يمكن أن يشمل كل طبقات المجتمع بوجود فساد مبني حكما على الاستغلال والغش وسوء معاملة المواطن.
ثانيا: في مؤشر "التنافسية" الذي يصدره سنويا مؤتمر دافوس في آخر الشهر الأول من كل سنة، تقع الصين في المرتبة 26 وراء كوريا الجنوبية وإسرائيل وماليزيا وحتى تايوان الصينية. يبنى المؤشر على عوامل عدة منها البنية التحتية للدولة كما البنية الفوقية ومنها الصحة والتعليم. هنالك مشكلة في القطاع الصحي في جانبيه أي من ناحيتي العرض والطلب. هنالك ضرورة لتطوير خدمات التأمين من ناحية الطلب وبناء مستشفيات ومستوصفات وعيادات حديثة ومتطورة من ناحية العرض حتى يتحقق التوازن.
ثالثا: الطاقة والبيئة وترابطهما إذ إن الصين هي من أكبر المستهلكين للطاقة في العالم ومن المتوقع أن يرتفع استهلاكها لها بدأ من سنة 2020 حيث تصبح الاقتصاد الأكبر في العالم. لم توقع الصين على العديد من الاتفاقيات البيئية التي تفرض عليها احترام شروط النظافة البيئية المهمة لسلامة المواطن ومستقبل الشعب.
رابعا: رغم تحقيق نمو سنوي كبير بلغ 10.4% في سنة 2010 وانحداره إلى ما فوق 7% فيما بعد، مازالت الصين تكبر في وقت مرضت خلاله الاقتصادات الغربية بسبب الأزمات وسوء الإدارة والمغامرات المالية التي فاقت الحدود والمنطق. تبقى نسب البطالة المعلنة في حدود 4% والتضخم 3%، لكن الفقر مازال موجودا وعميقا وهنالك طبقات شعبية لم تستفد بعد كما يجب من النمو المدهش المتواصل. يبقى ميزان الحساب الجاري فائضا بسبب الصادرات بينما يقع عجز الموازنة في حدود مقبولة جدا لدولة بحجم الصين. يرتفع الاحتياطي النقدي إلى مستويات مرتفعة حتى بالمقارنة مع الدول الغنية.
المرتبة 91 في مؤشر "سهولة الأعمال"
خامسا: رغم نجاح الصين في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة إليها، إلا أنها لا تحصل إلا على المرتبة 91 في مؤشر "سهولة الأعمال" الذي يصدره سنويا البنك الدولي. تقع وراء سيريلانكا وزامبيا وتركيا وغيرها. تتأخر الصين كثيرا في العديد من القوانين منها ما يرتبط بتأسيس الشركات الجديدة ورخص البناء والقوانين الضرائبية وغيرها. يشير هذا الواقع إلى الفرص الكبيرة التي مازالت متوافرة أمام الصين في حال قررت تحديث قوانينها أو الأهم منها.
تشير كل التوقعات إلى تفوق الاقتصاد الصيني على الغربي وفوزه بالمركز الأول في سنة 2020، فمن أين يأتي هذا النمو؟ ما هي مصادره والدوافع له؟ يقول الاقتصادي "روبرت فوغل" إن النمو ينبع من التراكم السريع للإنجازات التقنية، من تحول اليد العاملة من قطاعات ذات إنتاجية منخفضة إلى أخرى ذات إنتاجية عالية كما من الاستثمارات السخية في الإنسان. يقول الاقتصادي "غريغوري شاو" في كتابه "تفسير الاقتصاد الصيني" إن المصادر هي متعددة علما أن الصين غنية اليوم وبالتالي دوافع التغيير تصبح أقل من الماضي. هنالك طبقة سياسية حاكمة تخشاه خوفا من المخاطر التي يحملها التغيير والتي يمكن أن تعرقل المسيرة الناجحة حتى اليوم. هل ما يحصل اليوم في الصين يعتبر "أعجوبة اقتصادية" كما وصفها البنك الدولي في كتابه الشهير عن شرق آسيا؟ يقول "شاو" إن ما يحصل مع الصين منذ فترة شبيه بما حصل في اليابان قبل وبعد الحرب العالمية الثانية وكما حصل مع الصقور الأربعة بدأ من الستينيات إلى الثمانينيات أي مع هونغ كونغ الصينية وسنغافورة وتايوان الصينية وكوريا الجنوبية. تطور الصين ليس أعجوبة ويرتكز على التقدم في الميادين التالية:
أولا: تطور البحث في العلوم والتكنولوجيا بحيث تسبق الصين معظم الدول المنافسة. لا يهم إذا كانت الاستثمارات محلية أو غربية، المهم أنها تنبع من الداخل الصيني ومن خبراء محليين ومستوردين يستفيد منهم الاقتصاد. ترتكز الصين على رأسمال إنساني مميز ومؤسسات تعمل في اقتصاد لم ينضج كليا بعد، أي مازال يحتاج إلى الكثير مما يشير إلى أن فرص التقدم تبقى كبيرة.
ثانيا: النشاطات الأدبية والفنية والثقافية، إذ لا يمكن لدولة عظمى أن تتجاهل هذا الجانب الذي يؤثر على الجوانب الأخرى. هنالك وعي صيني كبير لأهمية الآداب التي تعطي جوا مناسبا لتقدم العلوم والإنتاج والإبداع في كل القطاعات.
ثالثا: بالتزامن مع التقدم في العلوم والفنون، ستصبح الصين أغنى أكثر فأكثر مع الوقت، وبالتالي ستستثمر في الخارج أكثر مما يعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي الدولي. سيتحقق ذلك بالتزامن مع التطور السياسي الديمقراطي الذي تجاهلته الصين في السابق أو لم تعطه الأهمية التي يستحقها لأسباب معيشية واقتصادية.
السياسات التصحيحية:
لا شك أن الصين أصبحت غنية اليوم بسبب تراكم السياسات الصحيحة ومنها السكانية. الصينيون متعلمون أكثر بكثير من الماضي وبالتالي قادرون على الاختيار بين الجيد والسيئ أي بين الاستثمارات المربحة أو الفاشلة. ينتقل الصينيون تدريجيا وبنجاح من التعلم إلى الإنتاج والإبداع في العلوم والتكنولوجيا والتربية. يتحرك القادة الصينيون اليوم بحرية أكثر حتى الذين ليسوا في أعلى الهرم. العصر الذهبي الصيني قادم حتما ليس فقط في الاقتصاد وإنما في مختلف الحقول. يرتكز التقدم على القوانين والمؤسسات الجديدة كما على التحسن في الميدان الأخلاقي ولو ببطء، مما يشير إلى استمراريته لمدة غير قصيرة.
( الشرق 24/4/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews