رغم أنهار الدماء .. العالم أكثر سلاما اليوم
ظهرت امرأة عجوز في شريط فيديو معتمرة قبعة صوفية وهي توبخ الجنود الروس في القرم. صرخت فيهم قائلة: "الخوف من شيم العبيد". رد عليها، بالروسية، رجل يضع قناعاً أسود على وجهه: "أنت امرأة مستفزة"، ثم دفعها لتسقط أرضا.
المنظر البشع الذي شوهد 600 ألف مرة على يوتيوب، يُظهر أحد أغرب أشكال الصراعات التي نشأت حتى اليوم. صراع لم يسفك فيه سوى قليل جداً من الدماء. وقد علق فلاديمير بوتين، بعد الاجتياح الروسي للقرم، على هذا الهجوم قائلاً: "لا يمكنني أن أتذكر عملاً واحداً من أعمال التدخل لم تطلق فيه رصاصة واحدة". لكن بعد شهر من ذلك قُتل ثلاثة أوكرانيين في هذا الصراع. وعندما استولى الروس على قاعدة جوية في القرم يوم السبت الماضي رد الجنود الأوكرانيون - وكان أغلبهم يحملون عصي خشبية - بترديد النشيد الوطني بنغمات خارج نغماته المألوفة. كانت الحصيلة إصابة أوكراني واحد بجروح خفيفة، لكن لا يزال يوجد احتمال بأن تأخذ الأمور منحى خاطئاً ومرعباً. فالقوات الروسية تحتشد على الحدود الأوكرانية وحادث واحد يمكن أن يشعل شرارة عمليات قتل واسع النطاق، لكن هناك أسباب للاعتقاد بأن العنف لن ينشب. وبهذا تُظهر القرم اليوم لماذا أصبح العالم أكثر سلاماً.
المُنظر العظيم لهذا الاتجاه هو ستيفن بينكر، أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد. يقول بنكر في كتاب يحمل عنوان "الملائكة الأفضل في طبيعتنا" إن العدد السنوي للوفيات الناتجة عن الحروب انخفض بنسبة 90 في المائة منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي حتى الأعوام الأولى في العقد الأول من هذا القرن. وكتب يقول: "ربما يكون هذا أهم تطور في تاريخ جنسنا البشري والأقل تقديراً في الوقت نفسه". (لكن سورية وهي أكبر اسثناء لهذا، ساهمت في العام الماضي بالعدد الأكبر من الوفيات الناتجة عن الصراعات في العالم).
هاتفتُ بنكر لمعرفة رأيه في أزمة شبه جزيرة القرم، فقال إنها تؤكد رأيه المتمثل في أن الصراعات في الأغلب نتاج المشاعر الوطنية، أو نرجسية القادة، وليس بسبب سعي الدول لتحقيق مصالحها الرشيدة.
وهدف روسيا بالتأكيد ليس البحث عن موارد. ولا تقدم القرم للروس أكثر من ميناء دافئ، وأوكرانيا تسمح لهم باستخدام هذا الميناء على أية حال. واحتلال الروس لمزيد من الأراضي لا يقدم لهم الأمن، لأن لا أحد سيحاول أبداً شن حرب ضدهم مرة أخرى. لكن الأصح، كما يقول بنكر، هو أن بوتين لديه أعراض القائد النرجسي، ولديه أحلام بالعظمة والرغبة في أن يُبجّل، إضافة إلى افتقاره للعاطفة. والواقع أن بنكر قال في عام 2012: "ربما يفكر بوتين، وهو يتقدم في السن، في الخلود التاريخي واستعادة العظمة الروسية بابتلاع جمهورية سوفياتية سابقة، أو جمهوريتين".
وربما كانت نرجسية تكريم الذات لدى بوتين والألعاب الأولمبية في سوتشي أسباباً في إثارة هذا النزاع. وقد راهن المتظاهرون الأوكرانيون فيما يبدو على أن بوتين لن يُقدم على إفساد احتفاله بسحقهم. ويتذكر مؤرخ الألعاب الرياضية الهولندي، جوريت فان دي فورين، الألعاب الأولمبية في موسكو عام 1980، عندما تساهل الاتحاد السوفياتي مع إضرابات العمال البولنديين، لأنه أراد الحفاظ على ألعابه. والنتيجة كانت ظهور اتحاد العمال البولندي "تضامن".
(فايننشال تايمز 2014-04-02)
أما هذه المرة فقد جرب الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش، عنفاً كان معايراً بصورة رديئة. قتل 100 متظاهر، وهو عدد قليل جداً لا يكفي لسحق الانتفاضة، لكنه كان كافياً ليضطره إلى الهروب من أوكرانيا. لقد خرق يانوكوفيتش القواعد السياسية للقرن الحادي والعشرين: يمكنك أن تسرق، لكن لا تقتل.
ولا يبدو أن هناك من هو تواق للقتل في الصراع الحالي. ولا حتى جون كيري يقترح تدخلاً عسكرياً أمريكياً. في العام الماضي وافق 52 في المائة من الأمريكيين الذين استطلع آراءهم مركز بيو للأبحاث على أن "الولايات المتحدة ينبغي ألا تتدخل في شؤون الآخرين في العالم"، وهي أعلى نسبة تتحقق من طرح هذا السؤال على المستطلعين منذ 50 عاماً.
وبحسب استطلاعات الرأي، فإن أغلب الروس يريدون القرم لكنهم يعارضون العنف. وظهر في أحد الاستطلاعات التي أجرتها أخيراً مؤسسة أليكسي نافالني المعارضة والمناوئة للفساد، أن 74 في المائة اعتبروا أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا "مستحيلة".
ويعارض أغلب الروس الحرب مع أوكرانيا، لأن أحد أسباب ذلك اعتقادهم بأن القرم "مُلكهم"، وهم يعتبرون أوكرانيا أرضا شقيقة، مثل روسيا تقريباً. ويوجد لكثير من الروس أقارب أوكرانيون، وكثير من الأوكرانيين ينحدرون من أصول روسية - أوكرانية مختلطة، أو هم غير متأكدين من ذلك. ويقول مارك بينيتس، مؤلف كتاب "رفس الكرملين": "لا تتصور الغالبية العظمى من الروس حدوث صراع حقيقي مع أوكرانيا. سيكون ذلك شبيهاً بحرب بين إنجلترا وويلز، أو بحرب بين الولايات المتحدة وتكساس. ولا يوجد تأييد شعبي لحرب طويلة مع أوكرانيا، ويندر أن يتصرف بوتين ضد الرأي العام الروسي".
ووفقا للمصطلح الذي استخدمه بنكر، الأوكرانيون يقعون "في دائرة التعاطف" الروسية. لكن لم تمنع مثل هذه الدائرة من قتل أعداد كبيرة جداً من الأوكرانيين خلال الفترة من 1917 إلى 1945. ويبدو أن دوائر التعاطف أصبحت أقوى هذه الأيام. ثم هناك تزايد في الاتصال الاقتصادي المتبادل، وهو الأمر الذي يرفع من تكلفة الحرب، فأي عدو محتمل هو أيضاَ شريك في الأعمال. وفي الحقيقة كانت كل الإجراءات الغربية التي اتخذت ضد روسيا إجراءات اقتصادية.
وأخيراً، هناك تراجع مستمر في الإيمان بالحروب البطولية. وقد اعتدنا رؤية الرجال المسنين في روسيا وهم يسيرون وأوسمة الحرب العالمية الثانية معلقة على صدورهم. ومع تزايد المكننة في الحرب أصبحت البطولة شيئاً نادراً. وأثناء الحرب على العراق روت الولايات المتحدة قصتين دعائيتين كبيرتين عن البطولات الفردية التي جرت فيها، وهما قصتا جيسيكا لينش وبات تيلمان، وثبت فيما بعد أنهما قصتان كاذبتان. وقال بنكر: "لأن الحرب تقدم فرصاً أقل للفروسية والبطولة، فإنها تصبح سبيلاً غير معتمدة لبناء الشخصية". ولا يزال من الممكن أن تندلع الحرب التي تطلق فيها النيران. "وهذا يتلف الأعصاب"، كما قال بنكر، لكن بالنظر إلى تراجع الشهية للعنف، لا يرجح أن يكون هناك سفك للدماء على نطاق واسع. ربما يوجد فعلاً تقدمٌ في التاريخ.
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews