سورية .. مأساة بلا نهاية
كان يمكن لعبد الرزاق الحمود، في زمن آخر أو مكان آخر، أن يقضي أيامه يدرب كرة القدم أو يعلم الرياضة في مدرسة دير الزور الثانوية، وهو المكان الذي عمل فيه يوماً ما معلماً. بدلاً من ذلك أصبح هذا السوري اللطيف ذو الشاربين مقاتلاً في صراع ليس له نهاية. أصبح قائداً متمرساً لـ 260 من الرجال الذين يقاتلون باستخدام رشاشات الكلاشينكوف الهجومية والأسلحة المضادة للطائرات، لإبقاء السيطرة على الحي الذي كسبوه بصعوبة، والذي يقع بشكل منتظم تحت تهديد قنابل مدفعية النظام وبراميله المتفجرة.
يقول الحمود البالغ من العمر 53 عاماً: "قبل سنتين لم نكن نسيطر على شيء، والآن لا وجود للنظام بدءاً من الحدود العراقية وحتى دير الزور". كان الحمود يتحدث أثناء اجتماع عقد في فندق في جنوب شرق تركيا، حيث اجتمع هو وبعض رفاقه من المقاتلين لمناقشة الاستراتيجيات مع النشطاء والثوار والسياسيين الآخرين السوريين.
قتل كثيرون من رجاله وأقاربه وجيرانه. سقطوا شهداء في الثورة التي بدأت قبل ثلاث سنوات. وهو يقول: إن كثيراً من الانتصارات تحقق أيضاً. "إذا فقدنا مقاتلاً فلدينا عشرة مقاتلين بدلاً منه، وأصبح لدينا الكثير من الخبرة في هذا الشأن، لقد تحسّنّا كثيراً، ونحن نكسب ونتقدم في كل الأوقات".
وفي الوقت الذي تدخل فيه الحرب السورية عامها الرابع، لا يوجد ربما سؤال مهم متعلق بحسابات المقاتلين سواء داخل البلاد، أو بصناع السياسة في الخارج أكثر ممن هو الذي سيكسب الحرب. ومن أكثر التوقعات المتشائمة بخصوص إنهاء هذا الصراع، الذي خلف وراءه حتى الآن ما يصل إلى 140 ألف قتيل وتهجير أكثر من تسعة ملايين شخص ـ فيما تصفه الأمم المتحدة بأكبر كارثة إنسانية تحدث منذ الحرب العالمية الثانية ـ أن يدّعي كلا الطرفين الانتصار.
يقول جان ماري جويهينو، نائب المبعوث السابق للأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سورية: "إن أسوأ ما يمكن قوله في هذا الوضع يكمن في حقيقة أن كل طرف يأمل في الفوز في هذه الحالة الانتقالية، لكن من غير الواضح أنه سيتمكن من ذلك. الكل يعتقد أنه يستطيع الفوز، لأن جميع الأطراف مهتمة بمواصلة القتال وليس البحث عن حل سياسي".
حتى الآن، الحرب قطَّعت أوصال سورية ودمّرت بوحشيتها اقتصادها وبنيتها التحتية. وسيلزم هذا البلد الذي تباهى يوماً ما بأنظمة الرعاية الصحية والتعليم، جيلاً بأكمله لكي يستعيد ذلك. كذلك عملت الحرب، بسرعة، على إحداث تغيرات كبرى في المنطقة وزادت من العداوات بين الطائفتين الشيعية والسنية في العالم الإسلامي، والتوترات الجيوسياسية بين الشرق والغرب. ولا تظهر أي علامات على نهايتها في وقت قريب. وأصبح الصراع معقداً وغدا منافسة متعددة المستويات بين المشاركين الأربعة الكبار فيها، حيث يوجد لكل مشارك داعمون خارجيون، وهم: النظام، والثوار، والمتشددون من دولة الإسلام في بلاد العراق والشام (داعش)، وهي فرع من القاعدة، وإثنية الأكراد.
ويدعي كل طرف من هذه الأطراف علناً أنه يحقق انتصارات وتقدماً، وكل واحد منها يقول ذلك للتخفيف من قلق مَن يدعمه. ويقول كل من النظام والمعارضة إنه كان بإمكانه هزيمة خصومه، لو لم تتدخل القوى الدولية. لكن لم يتمكن أي طرف من توجيه ضربة قاصمة ضد الطرف الآخر ولا أحد جاهز للتنازل عن مطالبه الأساسية، إذ تصر المعارضة على تنحي الرئيس بشار الأسد، وهو أحد أفراد الأقلية العلوية السورية، بينما يصر النظام من الناحية الأخرى على عدم الاستسلام "للإرهابيين"، وهو المصطلح الذي يعني أشياء كثيرة في وصف المعارضة ذات الأغلبية السنية. ويقول أحد الدبلوماسيين الغربيين: "لا يوجد حل عسكري لهذا الصراع، الطريقة الوحيدة للتقدم تكمن في عملية انتقالية، وستكون هذه العملية فوضوية".
وأصبحت الحرب بالنسبة لكل من النظام والمعارضة عملاً هدفه التقليل من التوقعات وتراجع العوائد الناتجة عنها. وتراجع كل منهما إلى مواقع دفاعية، وأصبح غير قادر على تحقيق اختراقات حاسمة في ميادين القتال.
ويقول أحد رؤساء منظمات المساعدة الدولية السورية: "كل هذا يجري حول الموارد الإقليمية، لماذا يحدث أكثر القتال ضمن خمسة كيلومترات من الحدود؟ كل ذلك يدور حول نقاط التفتيش والجمارك والسيطرة على البضائع المهربة من وإلى خارج البلاد".
إنهم يتبادلون صليات قنابل الهاون والصواريخ من مواقعهم الحصينة. والنظام يرسل طائرات نفاثة وسفناً حربية لإسقاط الموت على الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة. جميع الأطراف متهمة بارتكاب فظاعات وحشية.
ويقول يونس عودة، وهو معلق مؤيد للنظام السوري مقيم في لبنان: "هذه الحرب التي تحدث في سورية هي واحدة من أقذر الحروب في التاريخ. إنها مزيج من عدة أنواع من الحروب. ولو كان لأي طرف عدو محدد، لربما سميناها حرباً منظمة، لكنها ليست كذلك. كما أننا لا نستطيع تسميتها حرب شوارع. إنها حرب قذرة وخبيثة وذات أهداف عديدة".
وحققت المعارضة منذ بدء الانتفاضة ضد حكم الأسد تقدماً كبيراً. وبعد أن حكم الأسد ووالده سورية بقبضة فولاذية مدة 40 عاماً، أصبحت مناطق واسعة من البلاد – من ضمنها مناطق تقع داخل وحول العاصمة دمشق والمركز التجاري للبلاد في حلب - واقعة الآن إما تحت سيطرة الثوار السوريين، وإما داعش، وإما الأكراد. وفي بعض الأماكن الحيوية الغنية بالنفط، مثل محافظة الجزيرة التي يسكنها الأكراد إلى حد كبير، لم يعد للأسد سوى وجود رمزي.
ويقول صبحي أبو ليث، وهو صاحب محل لبيع الأثاث وجندي سابق انشق عن النظام: "هذه حرب بطيئة، وهي ليست لافتة للنظر أو يسهل مشاهدتها. لا يستطيع النظام التقدم خطوة واحدة، لكنه يستطيع القصف بالقنابل فقط".
وبذل الأسد كل جهده لشهور عديدة لكي يسيطر على الحدود اللبنانية في بلدات مثل يبرود التي سيطر عليها هذا الأسبوع. وقد أحرز هذا التقدم بمساعدة كبيرة من مقاتلي حزب الله اللبناني الذين قاتلوا إسرائيل عام 2006.
وأصبح لدى الثوار الذين بدأوا القتال وهم يضعون صنادل في أرجلهم، ملابس عسكرية وأطقم طبية وأجهزة اتصال لاسلكي. وقد أنشأوا غرف عمليات مشتركة داخل سورية وخارجها لتنسيق الهجمات. ويتلقى المقاتلون أحياناً راتباً رمزياً، ربما 35 دولاراً في الشهر، للمساعدة في دعم عائلاتهم.
ويقول العقيد عبد الجبار العقيدي، القائد والمتحدث باسم الجيش الحر في محافظة حلب: "حتى مع القليل الذي نملكه، تمكنا من قتال النظام. أصبحنا أكثر خبرة وقوة، ولدينا القدرة على الصمود في أراضينا. نحن نحارب على جبهتين، وهذا ما يقدم خبرة جيدة لنا. بعد سنتين أصبحنا أكثر خبرة في حرب الشوارع".
وعلى حد تعبير حمود، قائد منطقة دير الزور: "الأسد يسيطر على السماء، ونحن نسيطر على الأرض".
ويقدر قادة المعارضة أن أكثر من مائة ألف مقاتل مجمعون في نحو ألف كتيبة في ائتلافات كبيرة منوعة.
يبدو أن قوات النظام المسلحة التي كانت تعد في يوم ما ربع مليون جندي، وكانت تعتبر من بين أقوى الجيوش في العالم العربي، بدأت تنزلق يوماً بعد يوم نحو الفوضى. ويتحدث محللون عن دلائل قوية على انهيار هيكل القيادة والسيطرة على هذا الجيش. ويقول الثوار إنهم اعترضوا اتصالات بالراديو حدث فيها أن خالف طيارو النظام وقواته الأرضية بصراحة الأوامر الموجهة إليهم. ويقول محمد سليمان، المفتش السابق في وزارة الدفاع الذي انشق لينضم إلى المعارضة، وما زال يحافظ على اتصالات مع القوات المسلحة: "تسود القوات المسلحة حالة من الفوضى. المؤسسة العسكرية انهارت بالفعل، وكل ما تبقى هو عصابات تقاتل لأجل الحكومة".
وحسب رواية النظام، الأسد استمر في البقاء بالرغم من القوات الهائلة التي اصطفت ضده. ويقول عودة: "الحملة ضد النظام السوري شديدة للغاية محلياً ودولياً، وحتى الآن فشلت الأموال العربية والأجنبية في الإطاحة بالنظام، وما زال السوريون يدعمون النظام بقوة بينما بقيت أجهزة الدولة مثل المخابرات والدبلوماسية صامدة بقوة".
ويحذّر دبلوماسيون غربيون من أنه كلما طال أمد الحرب، فإن التعب سيحل بين العرب والمانحين الدوليين للمعارضة. ويعتبر الروس وإيران وحزب الله أن بقاء نظام الأسد حيوي لجهودهم الكبيرة في الصراع مع الولايات المتحدة والغرب.
ويقول حازم لطفي، المسؤول في مجلس حلب، الذي يرعى شؤون الحكم وتقديم المساعدات في شمال سورية: "يحصل بشار على دعم دولي كبير، ونحن نتحدث عن الآلاف من رجال المليشيا وملايين الدولارات، ومن الناحية الأخرى فإن أصدقاء المعارضة السورية في الخارج لا يقدمون مثل هذا الدعم".
والنظام مجهز بشكل أفضل. ويشتكي الثوار من أنهم مضطرون لمواجهة القوة الجوية للنظام باستخدام المدافع المضادة للطائرات التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية. وهم يتمنون الحصول على صواريخ الدفاع الجوي المتنقلة الباحثة عن الحرارة. لكن النظام لا يتفوق فقط في مجال الأسلحة، إنه متفوق أيضاً في أجهزة التجسس. يقول العقيد عبد السلام مهدي، قائد المجلس العسكري في حلب: "نريد المزيد من التكنولوجيا، نريد أجهزة لتساعدنا على سماع ما يقوله النظام وما يخطط له. ونريد المزيد من أجهزة التخابر والتجسس. النظام يستطيع الحصول على كل ما يريده من أجهزة التجسس من إيران وروسيا لمحاربتنا بها".
وتقدمت قوات النظام ببطء في حمص ودمشق، وشنت هجوماً على دمشق من الشمال الغربي، وهو هدف كان شبه مستحيل حتى الآن. وقال دبلوماسي: إن تقييماً مخابراتياً غربياً توقع أخيراً أن يتمكن النظام خلال 18 شهراً من السيطرة بقوة على ما تبقى من المناطق التي ما زالت تعمل بنجاح في البلاد.
ونتيجة لإحساس النظام باليأس الشديد من افتقاره لقوات موالية له، وجد أن قصفه للمناطق المدنية الواقعة تحت سيطرة الثوار لا يعمل فقط على إضعاف قوات المعارضة بثمن بخس، لكنه يحمل أيضاً هدفاً سياسياً، هو في واقع الأمر منع أي حكم بديل للأسد يمكن أن يضرب بجذوره مستقبلاً في أي مكان في البلاد.
ويقول بسام القوتلي، وهو ناشط في المعارضة السورية: "حتى الآن لا توجد بقعة تستطيع أن تقول عنها: انظروا، هذه هي سورية الجديدة. الهدف أن يبين النظام للناس أن الثورة لن تجلب معها أي شيء أفضل. إنهم يحاولون تدمير البنية التحتية الاجتماعية التي تساند الثورة".
والتآكل التدريجي لأماكن الثوار، وحقيقة أن معظم العالم يتجاهل ما يجري في سورية في الوقت الذي يقصف فيه النظام المناطق ذات الكثافة السكانية، أدى بكثير من المعلقين إلى استنتاج أن الدولة هي التي تفوز في الصراع، بصرف النظر عن التقدم الذي يحققه الثوار.
ويقول أحد عمال الإغاثة الذي يقوم بجولات أسبوعية خطرة داخل وخارج القسم الشمالي من سورية: "حين تنظر إلى النظام في الأشهر الستة الأخيرة، فإنه كان يحقق مكاسب استراتيجية صغيرة. حين تجد شوارع واسعة تجد النظام. وحين تجد أزقة فإن الثوار هم الذين يسيطرون عليها".
ربما تكون قوة الانتفاضة هي نقطة ضعفها. فالتفكك وغياب الوحدة الذي سمح لها بأن تضرب بجذورها في مئات المواقع دون أية سلطة مركزية يعمل على عرقلة قدرتها على تحقيق ضربة قاضية.
ويقول رئيس مجموعة غربية للمساعدات: "إن ما لا أراه هو جيش للمعارضة يكون أكثر تنظيماً. لديك أشخاص هنا يغيرون تحالفاتهم. يبقون معاً، لكنهم لا يندمجون".
وفي حين أن لبنان والعراق، بدعم من إيران، تقدمان للنظام مجندين جددا، إلا أن عدد المقاتلين الجدد الذين يلتحقون بصفوف الثورة آخذ في الجفاف. ويقول العقيد مهدي: "إذا لم يكن لدي مساعدات كافية من الرواتب والأسلحة، لا أستطيع تجنيد المزيد من المقاتلين". وحتى لو انتصر الثوار في الصراع، فسيمرون بأوقات عصيبة للفوز بالسلام. يقول خالد ميلاجي، وهو طبيب سوري في منظمة تعمل في تنسيق المساعدات الإنسانية: "رغم أن الثوار يقومون بعمل جيد في الميدان، إلا أن كثيراً من الفصائل السورية لا تثق بهم".
وبالنسبة لكثير من السوريين، بمن فيهم اللاجئون الذين يبلغ عددهم 2.5 مليون شخص خارج البلاد، إلى جانب سبعة ملايين من المهجرين داخل البلاد، فإن الحرب تعني خسائر هائلة.
يوسف، المؤيد للمعارضة والبالغ من العمر 20 عاماً من بلدة تل رفعت، تحمّل الغارات الجوية والقصف، لكنه هرب في النهاية من بيته مع عائلته إلى تركيا حين قطعت إمدادات الماء والكهرباء.
ويقول بعد عبوره الحدود التركية عند بلدة كيليس: "الثورة لا تنتصر. هناك عدد كبير من الأسباب وأحتاج إلى ساعات لشرح الموضوع. لكن السبب يعود أساساً إلى أننا لسنا متحدين".
( فايننشال تايمز 20/3/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews