قصة عائلة تختصر قصة الشعب الصيني
أصدرت المطابع العام الماضي كتابا متميزا للكاتبين "شيرمان كوتشران" و"أندرو هسييه" حول عائلة "ليو" الصينية التي كانت يوما ما من أشهر عائلات شانغهاي التجارية، وأكثرها نفوذا وبروزا.
وتتجسد أهمية الكتاب في أن قصة هذه العائلة وما مرت به من تحديات ومصاعب وإحن خلال الحرب الصينية اليابانية ما بين عامي 1937 و1945 أولا، ثم أثناء الأحداث التي انتهت بانتصار الشيوعيين في عام 1949 على قوات الكومينتانج الوطنية ثانيا هي اختصار لما عاناه الشعب الصيني كله، أو ربما انطبقت على عائلات صناعية وتجارية أخرى.
والحقيقة أن الكاتبين، باعتمادهما على مضامين رسائل خاصة بعائلة "ليو" تبودلت ما بين ربها "ليو هونجشينج" وزوجته "يي سوتجين" وأبنائهما كشفا النقاب عن أشياء جديدة لم تكن معروفة من قبل، ليس على صعيد العالم الداخلي لهذه الأسرة وكيفية بنائها لثروتها ونفوذها، وإنما أيضا لجهة ما رافق تلك الحقبة من تحديات وقلاقل وفوضى وخوف.
والمعروف أنه في النصف الأول من العشرينيات برزت هذه العائلة كإحدى أهم وأشهر العائلات الصينية المنخرطة في عالم المال والأعمال، والمتسيدة لإمبراطورية صناعية تنتج الكبريت والأصواف والأقمشة القطنية والأسمنت والطوب. وعــُرف عن هذه الأسرة اهتمام ربها بإعداد أبنائه وبناته إعدادا جيدا توطئة لتسليمهم مهام إدارة إمبراطوريته بعد مماته؛ لذا فقد عمد إلى إرسال أبنائه التسعة وبناته الثلاث، بعد تخرجهم من أفضل المدارس الصينية، إلى أرقى جامعات العالم مثل جامعة كمبردج البريطانية، معهد طوكيو للتكنولوجيا، وجامعات هارفرد وبنسلفانيا ووارتون الأمريكية، إضافة إلى معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا. من ناحية أخرى حرص رب العائلة وأبناؤه على الاشتغال بالسياسة من أجل التقرب من صناع القرار وكسب ودهم وصداقتهم، وبالتالي المحافظة على مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية. لذا فإنهم عملوا جنبا إلى جنب مع الزعيم الوطني "تشيان كاي شيك" أثناء الحرب الصينية - اليابانية، ومع الزعيمين الشيوعيين "ماو تسي تونج" و"تشو إن لاي" بعد قيام جمهورية الصين الشعبية.
وبالعودة إلى الرسائل التي اعتمد عليها الكاتبان نجد فيها تصورات رائعة حول كيفية تفاعل عائلة تجارية ذات نفوذ مع الشؤون والتطورات السياسية لمرحلة مضطربة ومعقدة في تاريخ بلادها، كما نجد فيها تساؤلات حول شؤون سياسية غاية في الحساسية، ناهيك عن أحاديث ونقاشات حول كيفية مقاومة القيم الجديدة التي نشرها الشيوعيون، وكيفية حماية سلطة الأسرة لممتلكاتها في ظل التطورات المتسارعة.
وقد أحسن المؤلفان عملا حينما قسما كتابهما إلى أربعة أجزاء من أجل أن يوضحا للقارئ كيف أن مناظرات عائلة "ليو" ورؤاها تباينت باختلاف الفترات التاريخية التي وقعت فيها. فمثلا الجزءان الأول والثاني اختصا بحقبتي العشرينيات والثلاثينيات التي كانت الصين فيها تعيش مرحلة الانفتاح على العالم، وكان فيها الصينيون يسافرون إلى الخارج بحرية. في هاتين الحقبتين توسعت إمبراطورية "ليو"، واستطاع ربها اقتناص العديد من الفرص المربحة، كما تمكن من إرسال أبنائه وبناته إلى جامعات الدول الرأسمالية ليتعلموا فيها وفي مجتمعاتها ما يعينهم على تحويل إمبراطورية أبيهم الصناعية إلى سلسلة إمبراطوريات عالمية عابرة للقارات. وحينما ارتحل الأبناء إلى الخارج للدراسة والتخصص ظلوا متواصلين مع أبيهم عبر الرسائل التي حملت تصوراتهم حول حياتهم الدراسية وعملهم في المستقبل وخيارات الزواج والإنجاب وغير ذلك من الأمور الخاصة، لأن الأمور العامة لم تكن تشغل بالهم في تلك الحقبة المزدهرة والمستقرة.
لكن الجزء الثالث من الكتاب مختلف تماما لأنه يختص بفترة الحرب الصينية - اليابانية التي انقطع بسببها تواصل الصين مع الغرب، وجعلت أسرة "ليو" في موقف دفاعي أمام قوات الغزو اليابانية، الأمر الذي دفع ربها - وعدد من أبنائه - إلى مغادرة شنغهاي طوعا، تاركا زوجته وأبناءه الآخرين وراءه. في هذه الحقبة تبادل أفراد الأسرة الرسائل أيضا، لكنها كانت رسائل تتمحور حول استراتيجيات قصيرة المدى من أجل البقاء والصمود، إضافة إلى مناظرات ونقاشات حول الشؤون السياسية مثل: هل من الأفضل التعاون مع الغازي الياباني الذي يحتل مسقط رأس العائلة أي شنغهاي؟ أو الانحياز لحكومة "تشيانج كاي شيك" الوطنية التي كانت قد اتخذت من مدينة "تشونج قينج" البعيدة عن شنغهاي بنحو 900 ميل عاصمة لها؟ أو الانضمام للحركة الشيوعية بقيادة ماوتسي تونج التي كانت تتخذ من مدينة يانان على بعد 750 ميلا من شنغهاي قاعدة لها؟
أما الجزء الرابع من الكتاب فيتضح منه كيف أن العائلة وجدت نفسها في ظروف تطورات راديكالية كنتيجة لانتصار الشيوعيين في عام 1949، وهو الحدث الذي كان محور رسائل "آل ليو" وتساؤلاتهم عما إذا كان الخيار الأفضل هو البقاء في الصين، أو الخروج منها، أو عودة من خرجوا منها من الأبناء أثناء الغزو الياباني، خصوصا أن رب العائلة "ليو هونجشينج" كان قد غادر شنغهاي متخفيا إلى مستعمرة هونج كونج البريطانية بمجرد استيلاء الجيش الأحمر على شنغهاي في أيار (مايو) 1949.
وخلال الأشهر الستة التالية لمغادرة "ليو" لمسقط رأسه دارت مراسلات عديدة بينه وبين أبنائه في الداخل كان محورها هو هل من الأفضل له أن يبقى، حيث هو أي في هونج كونج يدير ما تبقى من ثروة العائلة وينميها؟ أم يستجيب لدعوة أرسلها له رئيس حكومة النظام الشيوعي "تشو إن لاي" من بكين يحثه فيها على العودة إلى شنغهاي؟
والمعروف أن "ليو" لم ينحز للخيار الثاني ويعود إلى مسقط رأسه فحسب وإنما ظل يحاول أيضا إقناع اثنين من أبنائه الدارسين في الغرب بالعودة إلى شنغهاي بعد تخرجهما في ظل رفضهما ومقاومتهما للفكرة بدعوى انعدام الحريات في الصين الماوية من بعد أن كانت متاحة ومضمونة في الصين الوطنية. ويقول مؤلفا الكتاب إن رفض الابنين لدعوات والدهما أشعل بين الطرفين ما يشبه الحرب الباردة التي ذكرتهما بالسجالات والصراعات التي دارت بين الأب وولده الأكبر حول كيفية إدارة شركات العائلة ومصانعها في ظل الاحتلال الياباني زمن الحرب الصينية - اليابانية.
تــُرى ماذا كان وضع هذه العائلة وإمبراطوريتها اليوم، بل ماذا كان مصير الصين كلها لو لم تنتصر جحافل الجيش الأحمر على قوات الكومنتانج الوطنية وتؤسس لنظام حديدي أهوج على مدى أكثر من ثلاثة عقود؟
( الاقتصادية 17/3/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews