بحر «النأي بالنفس» وأمواجه
عند عودته من القاهرة، حذّر وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور من أن قرار اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي يسمح بمساعدة المعارضة السورية «قرار خطير، وهو إعطاء الحق لأي دولة بإدخال السلاح إلى سورية».
منصور الذي شدد على التمسك بسياسة الحكومة اللبنانية «النأي بالنفس»، كان قد دعا نظراءه العرب إلى إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، وتساءل فور وصوله إلى بيروت: «أين المشكلة في المطالبة بإعادة سورية إلى حضن الجامعة للتباحث معها في إيجاد الحل السياسي لإخراج سورية من أتون الحرب؟»، متناسياً أن العضوية لم تسحب من سورية، بل من النظام الممسك بالسلطة فيها اليوم، وأن الخطوة العربية، التي تندرج ضمن 15 قراراً اتخذتها الجامعة «ولم تؤد إلى نتيجة» –وفق وزيرنا-، كانت ترمي بالضبط إلى ما اشتكى منصور من غيابه: دفع النظام الذي يشن حرباً على الشعب والمجتمع السوريين إلى طاولة المفاوضات لإنهاء الأزمة بحل سياسي سلمي.
لم يرَ الوزير تناقضاً بين الحض على استعادة ممثلي بشار الأسد مقاعدهم في الجامعة العربية وبين «النأي بالنفس»، تماماً كما لم ترَ الحكومة التي قرعت رؤوس مواطنيها بضرورة عدم التدخل في الشأن السوري حفاظاً على المصلحة اللبنانية، مشكلة في التصاريح الصادرة من إحدى وزاراتها بتصدير المحروقات، التي لن تستخدم في غير تحريك آلة القتل التي يشغلها النظام. والحكومة لم تنتبه أيضاً إلى أن الطرف الأقوى فيها، «حزب الله»، يرسل مئات المسلحين للمشاركة في القتال ضد المعارضة السورية، ما ستكون له انعكاسات كارثية على مستقبل العلاقات بين «البلدين الشقيقين».
وحرصاً على التوازن، تغض السلطات اللبنانية النظر عن دخول مقاتلين آخرين يساندون «الجيش السوري الحر»، ويلقى بعضهم مصرعه برصاص جيش النظام، فيما يختفي آخرون أو يعودون استعداداً لجولة ثانية من القتال.
السلطات اللبنانية تنأى بنفسها عن معالجة هذه الظواهر لكنها ترفع الصوت مطالبة بالمزيد من المساعدات لإيواء اللاجئين الذين يتدفقون إلى الأراضي اللبنانية بأعداد كبيرة، وكأن اعضاء الحكومة هذه، المتمرس أكثرهم في عالم البيزنس والتجارة والمال، لا يريدون أن يخسروا في مجازفات سياسية واقتصادية، مفضلين التركيز على النواحي المجزية.
لكننا نعلم أن الوضع أسوأ من ذلك بكثير، وأن العلة أعمق من أن يعالجها رحيل حكومة ومجيء ثانية. ونعلم أيضاً أن «النأي بالنفس» بحر واسع، ولكل شيخ طريقته في الإبحار به، ولكل أستاذ مدرسته في تفسيره بما يتلاءم ومصالحه ومصالح جماعته ومصالح طائفته وبما يتصور من مستقبل للبنان وسورية.
أبعد من ذلك، يقول لنا هذا التنافر في سلوك القوى السياسية حيال الثورة السورية، بين مؤيد للمعارضة وصولاً الى دعمها بالمال والسلاح، وبين «محبٍّ» للنظام إلى حد إرسال المقاتلين لمساندته مساندة مباشرة، إن مساحة المشتركات بين اللبنانيين تتضاءل، وإن بهلوانيات الحكومة للظهور بمظهر الطرف المحايد حيال ما يجري وراء الحدود، تزداد صعوبة وتعقيداً، بما ينذر بسقوط أليم.
النواح على حالة الحكومة والمؤسسات الرسمية في لبنان لا يعني شيئاً، فالأصح أننا دخلنا طوراً جديداً وخطيراً من تفكك الدولة واختفاء معناها وجدواها، وسط طغيان البدائل الطائفية، التي لا تنقصها وقاحة مصادرة تمثيل مصالح اللبنانيين.
" الحياة اللندنية "
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews