أوروبا تتطلع إلى الغاز الأمريكي .. وأمريكا عينها على آسيا
يعوِّل الليتوانيون على شركات بناء السفن في كوريا الجنوبية في المحافظة على سمعتها في إنجاز العمل قبل موعده. وبالنسبة للبلد المطل على بحر البلطيق، البالغ عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة، تعتبر السفينة التي دشن العمل فيها في ميناء أولسان الأسبوع الماضي، التي تبلغ تكلفتها 330 مليون دولار، سلاحا فعالا يفوق في قوته أي سفينة حربية ضد سيدها السابق، روسيا. وحتى الأهمية الاستراتيجية لهذه السفينة واضحة من اسمها؛ "الاستقلال".
وإذا سار كل شيء حسبما هو مقرر، فستبدأ السفينة العمل بحلول كانون الأول (ديسمبر)، وستعمل محطة عائمة لليتوانيا لتسلم شحنات الغاز الطبيعي المسال في ميناء كلايبيدا. وهذا توقيت حيوي لأن القصد من سفينة الاستقلال هو اعتبارها البطاقة الرابحة في لعبة المفاوضات مع روسيا لتأمين غاز أرخص عبر أنبوب الشركة الروسية غازبروم، اعتباراً من عام 2015.
وتعتبر هذه السفينة إشارة من فيلينيوس، عاصمة ليتوانيا، إلى موسكو بأن لديها مصادر أخرى للطاقة. وتصر ليتوانيا على أنها لن تتحمل بعد اليوم دفع بعض من أعلى أسعار الغاز في أوروبا، أو تبقى تحت خطر إحساسها بأن روسيا يمكن أن تغلق خطوط الأنابيب في أي لحظة يحدث فيها خلاف سياسي معها.
ويصف أحد المسؤولين الليتوانيين هذا بقوله "إن وجود هذه السفينة في الوقت المناسب يعتبر مسألة حياة أو موت، من حيث استخدامها قوة مؤثرة أثناء محادثات تحديد الأسعار مع غازبروم".
ومع أن حالة ليتوانيا تعتبر متطرفة، إلا أنها تعتبر مثالاً مصغراً على حماس دول أوروبا الشرقية المتزايد لتنويع مصادر الغاز الطبيعي المسال، لتقليل اعتمادها على روسيا. والأزمة الطويلة في كييف أعادت ذكريات كيف قطعت موسكو صادرات الغاز التي تمر عبر أوكرانيا واستخدمت ذلك سلاحا سياسيا في عام 2009، متسببة في أزمة إمدادات في 18 بلدا خلال كانون الثاني (يناير) الثلجي. وإجمالاً تشكل الإمدادات من روسيا 30 في المائة من واردات أوروبا من الغاز.
وعلى الأساس نفسه، من المتوقع أن تكمل بولندا، وهي أكبر اقتصاد في أوروبا الشرقية، بناء محطة للغاز الطبيعي المسال على بحر البلطيق هذا العام، وذلك ببناء مرفق للغاز تبلغ تكلفته مليار يورو قرب منتجع سويناوجسي الساحلي. وستكون سعة المحطة الجديدة نحو خمسة مليارات متر مكعب من الغاز، يمكن زيادتها إلى 7.5 مليار متر مكعب، بينما تورد روسيا نحو تسعة مليارات متر مكعب من احتياجات البلاد من الغاز. وفي الوقت نفسه تتشاحن كل من فنلندا وإستونيا حول أي منهما عليها استضافة محطة.
في انتظار الغاز الصخري
وبالنسبة إلى كثير من حكومات بلدان الاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية يجري الحديث عن الغاز الطبيعي المسال بالطريقة نفسها التي يتم بها الحديث عن الغاز الصخري، باعتباره سبيلا لتنويع موارد الطاقة وأداة في المساومة على تخفيض تكلفة الغاز. وتقول هذه الحكومات "إن المزايا الاستراتيجية لمحطات الغاز الطبيعي المسال ستصبح أكثر وضوحاً عندما تبدأ الولايات المتحدة في جني الثمار كاملة من ازدهار النفط الصخري، وتبدأ في تصدير غازها الرخيص (محملاً على الناقلات على شكل غاز طبيعي مسال) إلى حلفائها في الناتو الموجودين على الحدود الروسية".
ويقول فاكلاف بارتوسكا، سفير شؤون الطاقة الوطنية في جمهورية التشيك، "إن أي غاز جديد يدخل إلى السوق مهم، لأن الروس يفَصِّلون مواقفهم التفاوضية على مواطن الضعف في كل دولة. إنهم يتحدثون عن صيغة أو معادلة (خاصة بأسعار الغاز) لكن لا توجد لديهم معادلة واحدة. هم يعرفون دائماً مقدار ما تتمتع به من استقلال، ثم يعملون حساباتهم على أساس ذلك".
وتنفي "غازبروم" دائماً أنها تلعب أي أدوار سياسية في أسعارها، لكنها واقعة في الفترة الأخيرة تحت ضغوط من المنظمين في أوروبا. فقد رفعت المفوضية الأوروبية قضية ضدها بتهمة الاحتكار في عام 2012 للتأكد مما إذا كانت تعيق حرية تدفق الغاز وسد الطريق أمام الموردين المنافسين وفرض أسعار غير عادلة، وذلك بتصنيف الغاز الذي تصدره وتربطه بمؤشرات النفط الخام. لكن "غازبروم" ترفض هذه الاتهامات.
وبشكل أشمل، لا يصدق الجميع أن الغاز الطبيعي المسال سيساعد أوروبا على التنويع. ويؤكد كثير من المحللين أن هذا ربما يكون أسوأ وقت للتنويع إلى الغاز الطبيعي المسال، إذ يمكن أن تزداد الأسعار في آسيا أكثر من 50 في المائة مقارنة بالأسعار في أوروبا، الأمر الذي يمكن أن يُقلل من الشحنات إلى دول الاتحاد الأوروبي، وعندها يمكن أن تواجه المعامل التي تستخدم الغاز الطبيعي المسال خطر التوقف عن العمل.
ويرفض المحلل البولندي في شؤون الطاقة، أندريزيج سزيزنياك، فكرة محطة سويناوجسي ويعتبرها "مشروعاً سياسياً". ويقول "هذا مشروع غير منطقي من ناحية اقتصادية، إنه يخالف القوانين الاقتصادية، لأن الغاز المستورد بواسطة ناقلات الغاز الطبيعي المسال لن يتمكن أبداً من منافسة الغاز الذي يتم تسليمه عن طريق خطوط الأنابيب".
إمدادات قطرية
ومن ناحية مبدئية على الأقل، تأتي زيادة أمن الطاقة مع تكلفة عالية. مثلا، ستأتي كمية الغاز التي ستبدأ بولندا بتسلمها من قطر ومقدارها 1.5 مليار متر مكعب في السنة، بموجب عقد مدته 20 عاماً، مقابل علاوة كبيرة. ويقدر توماسيز كاسويكز، المحلل في بنك كاشودني دبليو بي كى، أن بولندا ستدفع 600 دولار مقابل كل ألف متر مكعب من الغاز. وهذا مبلغ يزيد بنسبة 50 في المائة عن السعر للغاز الروسي الذي يأتي عبر أنابيب غازبروم.
ويقول كاسويكز "عندما تم البدء في هذا المشروع، كانت الأولوية القصوى هي أمن الطاقة وتنويع مصادرها. وكان من الصعب جداً في ذلك الوقت توقع ما سيحدث، وكان يعتقد أن الغاز المستورد من غازبروم سيكلف 400 دولار لكل ألف متر مكعب".
ولا تزال الشركة البولندية السابقة المحتكرة لاستيراد الغاز "بي جي إن آي جي" تتفاوض مع قطر. لكن إذا بقيت الشروط الحالية كما هي، فيقدر كاسويكز أن الشركة ستواجه خسارة سنوية تقدر بـ 500 مليون زلوتي بولندي (164 مليون دولار) من جراء مشترياتها من الغاز الطبيعي المسال.
لكن المفوضية الأوروبية ليست حزينة بسبب واردات الغاز الطبيعي المسال، فالمسؤولون في بروكسل يعترفون بعدم إمكانية إزالة روسيا عن عرشها المهيمن على توريد الطاقة إلى وسط أوروبا، لكنهم يرون أن محطات الغاز المسال ستثبت في النهاية أنها قوة "معيقة" في تسعير الغاز. ويعود جزء من هذا التفاؤل إلى الآمال بأنه بعد فترة تراوح ما بين سنتين وأربع سنوات ستستفيد دول الاتحاد الأوروبي من ازدهار الصادرات الجديدة من إفريقيا وأستراليا، والأهم من ذلك من الولايات المتحدة.
وفي استعراض يشير إلى ثقتها على المدى البعيد في مشاريع الغاز المسال التي يجري بناؤها في هذه السنة، قدمت المفوضية الأوروبية دعماً لمشروعي كلايبيدا وسويناوجسي. ففي حالة ليتوانيا أعطت الضوء الأخضر لتقديم مساعدة لحكومتها بمبلغ 448 مليون يورو. وفي بولندا ستسهم بمبلغ 80 مليون يورو تقدم مباشرة إلى مشروع سويناوجسي، كما وافقت على تقديم مساعدة حكومية بقيمة 465 مليون يورو للبنية التحتية التي ستربط مناطق البلاد بالمحطة الجديدة.
قطع الطريق على روسيا
وترفض أنيتا أوربان، سفيرة شؤون الطاقة في هنغاريا، اعتبار فكرة محطات الغاز الطبيعي المسال سلوكاً سياسياً غبياً وتقول "إن هذا أسهم بالفعل في تخفيض الأسعار الروسية في المنطقة". وتضيف "إنها إشارة إلى أن لدينا خياراً موثوقاً، وإن امتلاك محطة للغاز الطبيعي المسال له تأثير في الأسعار".
وتقول "إن المحطات تساعد على إيجاد ممر لنقل الغاز من الشمال إلى الجنوب عبر وسط أوروبا، بينما الروس يمارسون نفوذاً من خلال بنية تحتية تمتد من الشرق إلى الغرب، بنيت في العهد السوفياتي". ويقصد بمحطة سويناوجسي في النهاية أن تكون واقعة شمال شبكة أنابيب تمتد إلى محطة غاز طبيعي مسال أخرى في كرواتيا. لكن بما أن المحطة الكرواتية المخطط لها على جزيرة كيرك ابتليت بفترات طويلة من التأخير في إنجازها، أصبح الأوروبيون في وسط أوروبا يتطلعون أكثر إلى إيطاليا واليونان واعتبارها محطات جنوبية واقعة على الممر الشمالي الجنوبي.
وتؤكد أوربان أن المحطات واحدة فقط من مكونات تغيير البنية التحتية التي تهدف إلى قطع سيطرة ممرات التوريد الممتدة من الشرق إلى الغرب. ونفذت دول الاتحاد الأوروبي الواقعة في وسط أوروبا تحسينات كبيرة على مرافق التخزين الواقعة في أراضيها وعلى الوصلات الداخلية العابرة للحدود حتى تتمكن من المتاجرة مع بعضها بعضا. وإضافة لذلك، ستعمل الصادرات من أذربيجان على تعزيز وصول دول الاتحاد الأوروبي الجنوبية إلى واردات الغاز البديلة من أذربيجان، التي يُتوقع أن يتم نقلها بالأنابيب عبر الطرف الجنوبي لإيطاليا، بواسطة خط الأنابيب ترانس أدرياتيك بايبلاين، اعتباراً من عام 2019.
وعلى الرغم من أنه لن يكون للصادرات من أذربيجان أثر كبير في الأحجام الواردة، إلا أن كثيرا من الأوروبيين يأملون أن يرقى ازدهار الغاز المستخرج من الصخر الزيتي في الولايات المتحدة إلى المستويات المتوقعة منه ويعمل على تخفيض الأسعار العالمية بصورة أساسية. وحتى لو حصل ذلك، فسيشكل وصول دول الاتحاد الأوروبي إلى صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكي أحد الأسئلة المهمة جداً في تحديد أمن الطاقة الأوروبية والمنافسة الصناعية. كما أنه ليس واضحاً بالمرة ما إذا سيأتي الغاز الأمريكي بأسعار أفضل من أسعار غازبروم.
حملات في واشنطن
ويقود كل من بارتوسكا وأوربان حملة بلاده في واشنطن لدفع الولايات المتحدة إلى إسقاط القيود المتعلقة بصادرات الغاز. (لا تستطيع الولايات المتحدة في الوقت الحاضر التصدير إلى أي بلد دون وجود اتقافية تجارية). ويرى كل من الهنغاريين والتشيك أن الصادرات الأمريكية يجب أن ينظر إليها على أنها استراتيجية داعمة لحلفاء أرسلوا قوات إلى كل من أفغانستان والعراق.
لكنهم يواجهون معارضة لذلك. جزئياً، على الأوروبيين أن يواجهوا السياسيين الأمريكيين الذين يضعون على رأس أولوياتهم توجهات الرئيس باراك أوباما السياسية والاقتصادية نحو آسيا. كما أنهم يواجهون معارضة الشركات الأمريكية المؤثرة، مثل داو كيميكالز ومجموعة ألكاو للألمنيوم، اللتين تقودان حملة مضادة لصادرات الغاز، مدعيتان أن على أمريكا ألا تصدر المكاسب المنافسة التي هبطت عليها من الثورة الصخرية. والميزة التي تتمتع بها أمريكا واضحة جداً، فأسعار الغاز المرجعية في الولايات المتحدة تبلغ خمسة دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، بينما يمكن أن تباع شحنات الغاز الطبيعي المسال في آسيا بأسعار تصل إلى 20 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.
وترد أوربان على ذلك بأن الأحجام المشمولة بالتجارة لن تثلم حدة الميزة التنافسية الأمريكية. وتقول "سيكون ذلك علامة على التحالف عبر الأطلسي، وسيثير ذلك مسألة قيادة الولايات المتحدة والمدى الذي ترغب في الوصول إليه في مساعدة حلفائها".
لكن لدى الولايات المتحدة مخاوف سياسية. مثلا، سيكون على هنغاريا مواجهة مخاوف واشنطن من تحرك بودابست المفاجئ نحو موسكو بعد أن منحت الروس صفقة بمليارات الدولارات لبناء مفاعل نووي في أراضيها. واعتبر هذا عكساً لسياسة فيكتور أوربان، رئيس الوزراء الهنغاري، الذي قال مرة "إن على هنغاريا أن لا تصبح أسعد ثكنة عسكرية لشركة غازبروم".
ومع ذلك يتوقع أغلب المحللين أن الولايات المتحدة ستصدر في النهاية الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا. وللتغلب على العراقيل القانونية، اقترح مايكل تيرنر، وهو عضو جمهوري في الكونجرس، مشروع قانون "تعجيل تصدير الغاز الطبيعي المسال لحلفاء أمريكا".
لكن لا يرجح لأوروبا أن تكون أكبر المستفيدين. وتتوقع شركة وود ماكينزي للاستشارات أن تصدر الولايات المتحدة ما بين عشرة مليارات و15 مليار متر مكعب من الغاز بحلول 2020، بحيث تكون حصة الأسد موجهة إلى آسيا. كذلك يجادل المحللون بأن تكلفة تبريد الغاز الأمريكي إلى ما دون 160 درجة مئوية تحت الصفر، ثم شحنه إلى الاتحاد الأوروبي، سيزيد نحو ستة دولارات على تكلفة كل متر مكعب، ما يؤدي إلى رفع السعر النهائي للغاز الأمريكي.
«غازبروم» في موقع صلب
بالنظر إلى هذه التكاليف الإضافية، من المتوقع أن تظل "غازبروم" في موقع تنافسي قوي للغاية. والواقع أن حصتها السوقية في أوروبا في ازدياد، إذ ارتفعت في السنة الماضية إلى 30 في المائة، صعودا من 26 في المائة في 2012. وفي أواخر السنة الماضية جادل ألكساندر ميدفيديف، نائب الرئيس التنفيذي لـ "غازبروم"، بأن السوق لن يكون أمامها مجال إلا التحسن. وقال "بحلول عام 2025 ستحتاج أوروبا إلى 140 مليار متر مكعب من الواردات الإضافية سنويا. ونحن نتحدث هنا عن عشر سنوات فقط، وليست هناك بنية تحتية لتسليم هذا الغاز".
ويوافق تيري بروس، وهو محلل أول للغاز الطبيعي المسال في بنك سوسييتيه جنرال، على أن المحطات لن تؤدي إلى تخفيض الأسعار. وعلى المدى القريب، لن تنخرط قطر مع روسيا في حرب أسعار. ويجادل بأنه على المدى الطويل، فإن المشاريع الجديدة، وبعضها مكلف للغاية، لن تقلص من الأسعار الحالية إلا بصورة بطيئة. ويقول "إذا كانت بولندا فعلاً راغبة في الذهاب نحو الغاز الأرخص، فإن الخيار الوحيد أمامها هو الذهاب إلى الغاز الصخري".
والجدل بشأن المزايا الاقتصادية لاستيراد الغاز ستظل مستعرة لسنوات. لكن بالنسبة لكثيرين في الجزء الشرقي من الاتحاد الأوروبي، موضوع استقلال الطاقة يضرب بجذوره على نحو أعمق من التكاليف. وبالنسبة لبارتوسكا المفاوضات مع الروس تردد أحياناً صدى مصادماته مع سجانيه، حين كان زعيماً للطلاب في أواخر الثمانينيات. ويقول "ليس من مصلحتك أن تدخل إلى غرفة مع هؤلاء الناس دون أن تكون لديك خيارات أخرى".
( المصدر : فايننشال تايمز 2014-03-02 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews