الهوس بالسيولة ليس صحياً للأسواق المالية

الحاجة إلى السيولة أمر في غاية الأهمية بالنسبة لمن ينظمون أوضاع القطاع المالي ويضعون القوانين التي تحكم عمله. وحين تقول إن اقتراحاً معيناً سيدمر السيولة، فإن هذا يؤدي بصورة أو بأخرى إلى توَقف النقاش.

لكن ما السيولة؟ حين راجعْتُ أسواق الأسهم البريطانية بطلب من الحكومة في عام 2012، قال لي معظم المشاركين إن أفضل حُكْم على السيولة يكون من خلال الفرق بين تكلفة شراء وبيع السهم في آن واحد. لكن لأن هذا النوع من التعاملات لا يرجح لأحد أن يدخل فيه، فليس لهذا المؤشر معنى يذكر. واعتبر آخرون حجم التداولات مقياسا للسيولة، لكن هذا أدى إلى حجة دائرية مفادها أن التداول أمر جيد لأنه يشجع التداول، وهو منظور مهم للذين يمتلكون البورصات، لكنه غير مهم لأي شخص آخر.

والبحث في مسألة السيولة يقوم على شيء من الوهم. فالمصارف تقول لزبائنها إن بإمكانهم استرداد ودائعهم على الفور، مع أنه ليس بمقدورهم ذلك إذا أراد الجميع استردادها في الوقت نفسه. وغالباً ما يقال إن حيلة الثقة المذكورة تجعل المصارف فريدة – بمعنى أن لديها قدرة غامضة على "خلق النقود". لكن الأداة نفسها مستخدمة في كثير من الأسواق الأخرى من أجل خلق مظهر يوحي بتوافر شيء معين يفوق ما هو واقع فعلاً.

أعتقد أني أستطيع اللحاق بالحافلة رقم 39 في كل مرة أريد فيها ذلك – وتجربتي تؤكد ذلك – رغم أن الحافلة تستطيع استيعاب جزء صغير فقط من الناس الذين لا يعيشون فقط على طول خط الحافلة، وإنما يؤمنون بالشيء نفسه حول كونها متاحة للركوب. وفي كل مرة أضغط فيها على زر، تعمل الأجهزة الكهربائية في منزلي، رغم أنه لو حاول الجميع تشغيل أجهزتهم في الوقت نفسه فإن نظام الكهرباء سيُخيب أملهم.

وعوامل الكفاءة في توفير رأس المال ممكنة لأن المطالبات الفردية لا تكون مرتبطة تماماً مع بعضها البعض. وشركات الحافلات والكهرباء تدرس بعناية عوامل الارتباط بين مختلف المستخدمين وتحتفظ بهامش محسوب من الطاقة الاحتياطية استناداً إلى ذلك. لكن المنفعة العامة لهذه الطاقة الاحتياطية تفوق قيمتها الخاصة. بالتالي حين تكون موثوقية التزويد مهمة فعلاً – كما هي الحال في الكهرباء – تفرض الأجهزة التنظيمية على الصناعة طاقة احتياطية أكبر مما لو كانت ستختار طوعاً.

وإذا ازداد حجم استخدام أو تداول الكهرباء ولم يرتفع معه هامش الطاقة الاحتياطية، أو حتى تراجع، عندها يزداد عدد حالات انقطاع الكهرباء. بالتالي أحجام التداول الأعلى تقلص، ولا تزيد، من السيولة الفعلية. كذلك المتداولون بأحجام كبيرة لا يستطيعون، بحكم طبيعة نشاطاتهم، تقديم السيولة بالمعنى اللازم لأنهم لا يقدمون رأس المال: فهم يقفلون دفاترهم في نهاية اليوم.

وإذا عملنا على هندسة النظام المالي بالعناية والكفاءة نفسيهما الموجودتين في شبكة الكهرباء، فسيكون هناك عدد أقل من الأزمات المالية. ومع ذلك الكهرباء لها وضع خاص، لأن من المستحيل تقريباً تخزينها. وهذا يجعل المستهلكين مكشوفين بصورة خاصة، وهو السبب في أن الشركات تراعي بصورة خاصة ضمان بقاء النظام قوياً ومتيناً، لكنه أيضاً يجعل الشبكة حصينة نسبياً ضد عمليات الشراء المذعورة. ومعظم السلع الأخرى – مثل الطعام والوقود والمال – يمكن تخزينها، وهذا يجعل من المهم المحافظة على الثقة في كفاءة المزودين وفي أمن سلسلة توريدها. وأثبتت الأحداث أننا على حق حين نثق في أن العاملين في "وول مارت" و"إكسون موبيل" يعلمون ما يفعلون، لكن الأحداث لم تعطنا أسباباً قوية للاقتناع بقدرات الذين يديرون المؤسسات المالية الكبيرة.

مع ذلك يختلف المال عن هذه السلع الأخرى من جانب مهم: تستطيع الحكومة طباعة النقود، لكنها لا تستطيع إنتاج الطعام، أو الوقود، أو توليد الكهرباء، أو الإنتاج السريع لحافلة أخرى رقم 39. وعلى نحو من التناقض الظاهري، يبدو أن هذا أوجد إحساساً أقل، وليس أكثر، بالأمان بالنسبة لمستخدمي النظام المالي، لأن مديري الشركات ومسؤولي الأجهزة التنظيمية الذين كان سيتعين عليهم خلافاً لذلك أن يتولوا مسؤولية استمرار عمل النظام المالي، يعلمون أن هناك إجراءات احتياطية تستخدم في الملاذ الأخير.

بالتالي أفضل مقياس لسيولة السوق هو درجة ثقة الزبائن في أن متطلباتهم يمكن الوفاء بها. وسلسلة التوريد لن تكون مناسبة للغرض حين يعمد المستخدمون إلى تركيب مولداتهم الخاصة، أو تخزين الطعام المعلب. ولن يعمل النظام المالي حين يضع المستخدمون المحتملون أوراق البنكنوت تحت السرير، أو يضعون الذهب في العلية. تعمل سوق الأسهم بكفاءة حين يستطيع المستخدمون العمل بقدر قليل من المال النقدي في محافظهم. السيولة هي أمن التوريد وليس حجم التداول. ما ندعوه السيولة هو في الغالب المظلة التي تختفي حين ينزل المطر.

( فايننشال تايمز 20/1/2014 )