سنة جيدة لبوتين .. سيئة لروسيا
ميخائيل خودوركوفسكي أطلق سراحه. أخيراً مُنح الرئيس السابق لشركة يوكوس للنفط عفواً رئاسياً بعد رميه في معسكرات العمل لأكثر من عقد من الزمان بسبب جرأته في تحدي سلطات الرئيس بوتين. لكن من الخطأ اعتبار هذا القرار تحولاً في مشاعر الكرملين. ومن المرجح أن يكون هذا شبيهاً بالعفو المقدم لنشطاء حركة السلام الأخضر وفرقة الفتيات بوسي ريوت، أي لفتة محسوبة يرسلها حاكم مستبد يرى أحياناً أن مثل هذه الأعمال من الكرم المزعوم ستكون لمصلحته.
لكن حسابات بوتين تقول إنه اجتاز سنة جيدة. فالرئيس الروسي متعطش لتقدير العالم له وقد تركت الولايات المتحدة مساحة لموسكو على الطاولة الرئيسية لكي تجلس عليها، بعد أن تراجع نفوذها في العالم. ويحب بوتين أن يوهم نفسه بأن روسيا وأمريكا متساويتان بوصفهما قوتين عالميتين، والعفو عن خودوركوفسكي كان عمل شخص يحب التظاهر بأن روسيا لا تزال مساوية للولايات المتحدة.
لقد أعطى تذبذب مواقف الغرب حيال سورية نصراً دبلوماسياً مهماً لبوتين. ففي البدء هدد باراك أوباما بقصف نظام بشار الأسد حال استخدامه الأسلحة الكيماوية، لكن الكل عرف أن الرئيس الأمريكي لم يكن ينوي ذلك فعلاً. وفي الوقت الذي تردد فيه الرئيس أوباما، سحب البرلمان البريطاني السيف الذي كان يهدد به ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، بشن الحرب على سورية، وبقي الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، وحيداً أمام مذبح فكرة التدخل المسلح.
كانت الصفقة التي أبرمت لتدمير أسلحة سورية الكيماوية علامة على موافقة واشنطن على بقاء الأسد في السلطة. وأرسل ذلك رسالتين مهمتين أيضا، هما: لم يعد الغرب قادراً على التخلص من قادة الشرق الأوسط دون موافقة روسيا، ولا يمكن الاستغناء عن روسيا في أي جهد يبذل للوساطة في التسويات السياسية في المنطقة.
وما حصل هو أن صفقة الأسلحة الكيماوية أنقذت أوباما من ورطة مؤلمة، لكن بوتين خرج منها وكأنه المنتصر. وبالنسبة لكثيرين من المهتمين بالسياسة الأمريكية، كان هذا الحدث برهاناً على سلطة الولايات المتحدة المتراجعة في الشرق الأوسط. كما بعثت مساندة بوتين للصفقة مع إيران لتقييد برنامجها النووي، الرسالة نفسها لصقور السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
وفي الداخل الروسي عملت موسكو على إفساد اتفاق تعاون يسمح لأرمينيا بالتحول غربا باتجاه الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن - على الرغم من المظاهرات الكبيرة في شوارع كييف – يبدو أن بوتين نجح في تخريب دمج أوكرانيا مع جيرانها الغربيين. وهو مصصم على إرجاع أتباع موسكو السابقين إلى حظيرة الاتحاد الجمركي لدول أوراسيا (أوروبا الآسيوية).
في الحالتين نشر الكرملين مزيجاً من التهديدات والوعود، لكن كان الإكراه على الأرجح أهم من تقديم الحوافز. وبينت البصمة الصغيرة التي تركها بوتين على الصفقة مع رئيس أوكرانيا، فيكتور يانوكوفيتش، أن سخاء موسكو المالي يأتي بشروط قاسية. وستحصل أوكرانيا على المال ما دامت تفعل ما يُطلب منها. وكان كارل بيليت، وزير الخارجية السويدي، محقاً في ملاحظته اللاذعة، حين قال: "من الواضح أن سياسات الضغط الوحشي تؤتي ثمارها" بالنسبة لبوتين.
وكل هذا يترك بوتين ينفش ريشه متباهياً قبل بدء الألعاب الأولمبية الشتوية في سوشي. وقد خرجت تكلفة هذه الألعاب عن السيطرة وسيقاطع كثير من زعماء العالم هذا الحدث احتجاجاً على إهمال روسيا لحقوق الإنسان. وهذا ليس مهماً، لأن بوتين يأمل أنه عن طريق النفخ في البوق أو الجعجعة يمكن أن يبقي الوهم بأن روسيا تصعد مرة أخرى. ويأمل كذلك بأن يكون إطلاق سراح خودوركوفسكي وغيره من المنشقين عاملاً في التخفيف من أثر الاحتجاجات في الغرب.
ويرى الكرملين في السياسة الخارجية لعبة نتيجتها دائماً فوز طرف على الطرف الآخر، ويشكل فيها الناتو والاتحاد الأوروبي خصوما دائمين. وروسيا تكسب دائماً إذا شوهد الغرب خاسراً. وفي خضم عقلية الحرب الباردة هذه سيبدو اندماج أوكرانيا مع الغرب هزيمة لروسيا، وكذلك الأمر مع إزالة الأسد من سورية. وحتى توسيع التجارة بين أرمينيا وأوروبا الغربية سيهز من سيطرة الكرملين على الفضاء الذي أعقب الحقبة السوفياتية.
ولا يوجد لدى روسيا أصدقاء راغبون في البوح بذلك، لكن أصدقاءها هم من تخيفهم وتهددهم للخضوع إلى إرادتها، وهم حفنة من الحلفاء عند اللزوم، أو ممن يرون مصلحة في العلاقات مع موسكو. أما بالنسبة للولايات المتحدة فلديها دائماً كثير من المعجبين والمقلدين، على الرغم من كل الانتقادات التي توجه لها. لا أحد يريد أن يكون مثل روسيا، لأن قوتها تكمن في قدرتها على الإفساد.
وغرور بوتين هذا يخفي وراءه ضعف روسيا. ففي الوقت الذي يتغطرس فيه ويستعرض قدراته، تشهد روسيا مزيداً من التدهور الاقتصادي. وهناك عوامل تجعلها عاجزة استراتيجياً، وهي موثقة جيداً، وتتمثل في زيادة الشيخوخة بين المواطنين وتناقص عدد سكان البلاد، وتهاوي البنية التحتية، إضافة إلى الاقتصاد غير العصري، والفساد المتوطن، وغياب حكم القانون. وسيعجل انخفاض أسعار النفط وبطء نمو الاقتصاد بقدوم مشاكل جديدة. والآن تقدم روسيا إلى أوكرانيا مليارات الدولارات، لكن هذه مبالغ لن يمضي زمن طويل قبل أن تصبح موسكو غير قادرة على تحملها.
وهناك لحظات يبدو فيها بوتين كأنه على وشك الاعتراف بحقائق غير مستساغة من هذا القبيل. فقد اتهم في الفترة الأخيرة حكومته نفسها بالإخفاق في إيقاف طوفان رأس المال الهارب من البلاد، وطالب بمعاقبة الشركات الروسية في حال تم نقل رأس المال إلى الخارج. وهنا يمكن أن نجد تفسيراً آخر للقرار بإطلاح سراح خودوركوفسكي، وهو أن إرسال هذا المتنفذ الفردي السابق إلى السجن كان تذكرة دائمة إلى المستثمرين المحتملين – الروس وغيرهم – بأن أصولهم يمكن مصادرتها بناء على نزوة من الكرملين.
لقد أصبح خودوركوفسكي حراً، لكن ذلك لن يغير كثيرا. فقد عاد بوتين الأسبوع الماضي للحديث عن شيء عفا عليه الزمن، وهو أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان واحداً من أكبر مآسي القرن العشرين. لكن الكارثة الحقيقية هي سقوط روسيا على أيدي قوة استبدادية سلبت السلطة وخرجت عن القانون.
( المصدر : فاينانشال تايمز 2013-12-25 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews